كتب عيسى يحيى،
عبثاً يحاول اللبنانيون التأقلم مع الواقع تحت نير أزمةٍ إستفحلت على مختلف الصعد المعيشية والحياتية، وبات معها تأمين أبسط المقومات صعباً، من رغيف الخبز الذي تفتقده بعلبك منذ يومين، إلى المياه الغائبة عن منازلهم منذ أسابيع، أما الكهرباء فقصتها لا تنتهي.إستغنى العديد من البقاعيين عن الكثير من عاداتهم التي اتبعوها في مسيرة حياتهم، وكانت حافلة بالبذخ والشراء و»الضهرات» وما شابه، حتى جاءت ثورة 17 تشرين وساهمت في تعرية الأزمة سريعاً والدخول في عصر الدولار الأسود وقد قبض على مفاصل حياتهم وباتت مرهونةً له ويتحكم بها، ويفرض سعره على الغالي والنفيس في وقتٍ اغلبيتهم لا تزال تقبض راتبها وفق سعر الصرف الرسمي، ما دفعها الى تبديل نمط حياتها بما يتناسب مع قدرتها الشرائية التي وصلت الى الحضيض.للعام الثالث على التوالي، يمرّ فصل الصيف على الكثيرين من دون أن يستغلوا يوماً واحداً فيه للخروج والتنزه كما كانوا يفعلون سابقاً، فنزهة واحدة تكلف معاشاً كاملاً ناهيك بالخروج للعشاء أو الغداء في أحد مطاعم المدينة التي تتوزع في منطقة رأس العين في بعلبك وتتوسطها الحديقة التي يمرّ بها نهر البياضة والمظللة بالأشجار المعمرة التي تغطي بفيئها مساحة الحديقة، حيث أصبحت مقصداً لأهالي المدينة غير القادرين على مواكبة الغلاء والجلوس في المقاهي والمطاعم، والوافدين من خارجها في رحلات سياحية، وما بينهم من يمارس الرياضة الصباحية والمشي، أو يصطحب أولاده معه للعب بالألعاب الموضوعة في الحديقة منذ سنوات وقد كانت عبارة عن مشروع مقدم من إحدى الجمعيات بالتعاون مع البلدية.في منطقة رأس العين في بعلبك كل يوم تشاهد مفاعيل الأزمة الإقتصادية ونتائجها السلبية على المواطنين، وفي المقابل ترى كيف استفاد البعض منها وراكم الثروات أو ممن يقبضون راتبهم بالفريش دولار أو المتمولين. فعلى أرض الحديقة ترى مئات العائلات تفترش «المرج» لتقضي يومها وتبعث الفرحة في نفوس أولادها، وتكتفي بإحضار ما تيسر من المنزل لقضاء يومها لعدم تمكنها من دخول المطاعم المحيطة، وتسمع ضجيج الفرح وصراخ الأولاد ينبعث من تحت الأشجار في ظل الهواء الطلق حيث اعتاد أهالي المدينة على الحديقة أن تفتح أبوابها من الخميس حتى الأحد، فيما أصبحت رياضة المشي داخلها يومية عند عدد من الرياضيين والمجموعات.
وعلى المقلب الآخر ترى كماً هائلاً من السيارات التي تقوم بجولاتٍ حول الحديقة من دون توقف على مدار ساعات المساء ويتجاوز مصروفها اليومي من البنزين مئات الآلاف ما يدل على حجم التفاوت الطبقي الذي أرخته الأزمة، كذلك الأمر ترى البعض يرتاد المطاعم والمقاهي ممن تسمح لهم أوضاعهم وأحوالهم ويستطيعون دفع الفاتورة. وما بين ذلك كله من يقصد الحديقة هرباً من الحرارة في ظل انقطاع الكهرباء، فالأشجار والمياه تبعث البرودة داخلها ما يخفف عنهم حرّ جهنم.لا متنفس لأهالي بعلبك والمناطق المجاورة سوى «مرجة رأس العين» كما يحلو للبعض تسميتها، فهي المعلم الطبيعي الوحيد إلى جانب بركة مياه البياضة الذين يقصدهما الأهالي يومياً. والى جانب الوضع الإقتصادي الذي زاد عدد قاصديها، يشكل الوضع الأمني لاعباً أساسياً أرخى بظلاله على الوضع في المدينة، حيث لمس أهالي بعلبك ارتياحاً أمنياً وهدوءاً غير مسبوق بعد قيام الجيش بحملته الأمنية والإجراءات التي يواصل اتخاذها في سبيل بث الطمأنينة في نفوس الناس، وقد كانت على موعد يومي مع اطلاق نار ما يكاد يبدأ حتى تباشر الناس بلملمة أغراضها والهرب خوفاً من رصاصة طائشة، وتخف زحمة السيارات في غضون دقائق.
المصدر : نداء الوطن