في ظل تكاثر الأزمات وإنعكاسها على فكر وحياة الأبناء
إن من أهم معالم عظمة الإسلام في تأصيل التربية وتحميل المسؤولية وتنميتها لدى الأبناء، حرصه على الأبناء حرصا كليّا في كل مفاصل حياتهم والعمل على وضع اللمسات البيانية في كيفية العمل الجاد لنشأة الطفل، نشأة إيمانية أخلاقية تربوية عملية، يستطيع من خلالها أن ينشأ على القِيَم، ويربّى على المبادئ، وتنمّي فيه معالم المسؤولية، فينشأ كبيرا في عين والديه، من خلال زرع المحبة الحقيقية، والتربية العملية، وسقايتها ميدانيا في صنوف مشاغل الحياة، إن في ظل الأزمات فضلا عن الحياة العادية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعٍ في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته».
ومن هنا كان هذا الحوار مع فضيلة الشيخ د. وفيق حجازي حول واجب الأبناء تجاه الأبناء في زمن الأزمات..
ضرورة محو السلبية
{ في عصرنا الذي تكاثرت فيه المحن، كيف تكون توعية الأبناء من قبل الأبناء؟
– تكمن التربية الصحيحة في محو السلبية واللامسوؤلية عند الأبناء، فعندما يقصّر الوالدان في تشريك الأبناء المسؤولية منذ صغرهم يكونون السبب الأساس في عدم التوجيه السليم والتربية الصحيحة، ولذلك ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال كنا عندَ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: أخبِرُوني بشجرةٍ تُشبِه المسلم، لا يَتَحاتُّ ورقُها، قال ابن عمر: فوَقَع في نفسي أنها النَّخلة، ورأيتُ أبا بكرٍ وعمرَ لا يتكلَّمان فكرهت أنْ أتكلَّم، فلمَّا لم يقولوا شيئاً قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، فلمَّا قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقَع في نفسي أنها النَّخلة، فقال: ما منَعَك أنْ تكلَّم؟! قال: لم أرَكُم تكلَّمون فكَرِهتُ أنْ أتكلَّم أو أقول شيئاً، قال عمر: لأنْ تكون قلتَها أحبُّ إلَيَّ من كذا.
وفي ظل الأزمات التي تحدّق بالبلاد يتأكد العمل الجاد على زرع قِيَم المسؤولية في الأبناء، وتربيتهم على حُسن تَصرِيف شُؤونهم الخاصَّة منذ الصغر ليتحمّلوها عندما يكبرون، فيَنشَأ الابن على تحمُّل المسؤوليَّة، ولدَيْه القدرة على مُخالَطة الرجال ومُناقَشتهم ورفْع معنويَّاتهم، فيشعرون بتقدير الأهل لهم ويشعرهم الأهل بتقديرهم لهم، ويترفَّعون بذاك عن بعض ما لا يرضَى من الأقوال والأفعال، «وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ».
منح الأبناء تحمّل المسؤولية
{ وكيف نجعلهم يشعرون بالمسؤولية خاصة مع ما طرأ على حياتنا من تغيّرات؟
– إن دور الوالدين مهم في منح الأبناء تحمّل المسؤولية، وهذا السلوك وتربيتهم عليه معرفياً وعملياً، فليست العملية تلقينية بحتة، وإنما لا بد أن يصاحبها سلوك نموذجي، يتعلم منه الطفل كيف يدير وقته ويحافظ على ماله ويتحكم في أفعاله وأقواله، فمع تدريبه على الاعتماد على النفس أو المسؤولية الذاتية، نبدأ في التوسع في تحميل المسؤولية في دوائر متعددة ليتحمّل مسؤولية الآخرين كذلك، فيبدأ الطفل بتحمّل مسؤولية خدمة إخوته، ثم تلي ذلك مسؤولية دائرة الجيران، ثم دائرة الأقارب، ثم دائرة الشارع أو الحي، وتظل تلك الدوائر تتصاعد حتى تشمل مشكلات المسلمين في العالم، ثم مشكلات الناس بصفة عامة، فيستطيع الطفل أن يهتم بمصلحة إخوته، أو تتحمّل البنت هموم أهلها، أو يفكر كلاهما في هموم المسلمين، أو مشاكل المظلومين في العالم كله، ويخرج الطفل شيئاً فشيئاً من أنانيته البغيضة إلى عالم المعاملات الإنسانية الراقية التي تجعل الإنسان إنساناً، ويستطيع أن يتحرر من رغباته الضيقة المحدودة، ويرى العالم الرحب الجميل الذي يتجلّى في خدمة الآخرين، ويستطيع أن يستشعر المتعة الموجودة في قضاء مصالح الناس.
الطفل بحاجة لمن يبني فيه الشعور بالمسؤولية مبكراً، لذا من المهم أن نمنح أطفالنا الشعور بالمسؤولية في السنين المبكرة من أعمارهم، فكلما شعر الطفل أنه مسؤول عن تصرفاته وأفعاله ولو في بعض القضايا فإن ذلك يمنحه القدرة في التعامل مع الأمور بفعالية أكبر، وكلما تأخّر إحساس الطفل بالمسؤولية كلما كان بناء ذلك أصعب وأشدّ، ولن يكون قادراً في المستقبل على تحقيق إنجازات رائعة ما لم يشعر بالمسؤولية.
ولكي يتعلم الطفل الاعتماد على نفسه وتحمّله المسؤولية يجب أن يظهر دور الوالدين في مساعدة الطفل على هذا الأمر بدءا من المنزل وغرس القيم النبيلة في نفسه كتشجيعه على عمل الخير، وتعزيز السلوك الإيجابي والشعور بالمسؤولية الكبيرة تجاه هؤلاء المحتاجين حتى يصبح طفلا يملك قلبا كبيرا وأخلاقا نبيلة قد تم غرسها فيه منذ الصغر، ولا بد من مساعدة الأبناء في التوجيه نحو هدف معين، والتحدث معهم عن المستقبل، فلا يجب أن يعيش الطفل طوال حياته بلا أهداف، ولا يمكن فرض المسؤولية، بل المسؤولية تنبع من الداخل، وتتغذى وتوجّه من قِيَم مستقاة من البيت والمجتمع.
الاحتضان والاستيعاب والتوجيه
{ وكيف يتفاعل الأهل مع مخاوف الأبناء ونقاشاتهم؟
– أمام الأزمات التي تصيب الوطن بأكمله، لا ينبغي أن يغفل أن تلك الأزمة شملت الكبير والصغير، وأنه يلزم العمل على الخروج من تلك الأزمات وبيانها له بطريقة لا تكون مخرجة له عن التفاعل مع الواقع والتعامل مع الأزمات بما يسهم من تخفيف حدّتها عليه، وتحويل ما يكون سلبيا إلى إيجابي وهذا دور تربوي مهم وخطير في آن.
وعلينا أن نأخذ مخاوفهم بجدّية ونناقشهم فيها، ولا يقبل أن نسخر من مخاوفهم حتى لا يزداد قلقهم، وأن تكون تلك الإجابة كافية عما يختلجهم من تساؤلات بطريقة مبسّطة تتناسب وعمرهم، ولا ينبغي أن يتكاذب على الطفل في تلك الأزمة، بل يلزم أن يوضح له ذلك بصورة واضحة تتناسب وشخصيته، مع العمل التفاعلي للخروج من تلك الأزمة وعدم القلق والتوتر أمامه، بل بالثبات والمكنة وقوة الشخصية، ليأخذ من ذلك التصرف ما يكون له معينا في مواجهة تلك الأزمة، فمهما صعبت الأمور فلا بد من الاستماع للطفل، وأن يعبّر عن مكنون ما يشعر به، ليعمل بعد ذلك على الخروج من الأزمات والكوارث، فمهما كانت قدرات الطفل، فإنه لا بد من توفير المعلومات عما يحدث حوله بطريقة غير معقدة تتناسب ومستواه العقلي واللغوي.
ولا بد لكي نحصل على نتاج في تحميل الأبناء المسؤولية أن نعمل على احترام الذات للطفل وإشعاره بقدرته على ما يريد وانه عضو فعّال في المجتمع وأنه محبوب من قبل الآخرين لما يقوم به من عمل بما يسهم في اكتسابه القدرة على التغيير والنجاح في المستقبل بكل تأكيد.
ومن هنا فإن الرسالة التي يلزم توجهيها للمربّي هو أن يعمل على التحفيز للأبناء والثقة به وبقدرته على تنفيذ المهمات فنحن بحاجة لأن ننشئ جيلاً واثقاً من نفسه ويمتلك حسّاً عالياً بالمسؤولية من أجل ضمان مستقبل طفلك والتأكد من أنه سيكون قادرا على تحقيق جميع أهدافه.
{ وماذا عن دور المسؤولين على كل الأصعدة؟
– الرسالة التي توجه للمسؤولين فإنها تكمن في أن يعلموا أن المسؤولية ليست ترفا بل هي خطيرة لمن لم يؤدِّ لها حقها ومن ولّي أمرا فلم يعطِ كل ذي حق حقه وقصّر في مسؤولياته فمخاصمته بين يدي الله تعالى يوم القيامة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، وقال عليه الصلاة والسلام: لكل غادر لواء يوم القيامة، ولا ينسى قول الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}، فلكي ينشأ جيل سليم فإنه يلزم أن يُربّى تربية سليمة ويتحمّل المسؤولية منذ صغره ليكون في العمل كبيراً شعاره أن من شبَّ على شيء شاب عليه.