في 1974 – اي منذ 48 عاما – حمل الكاتب الصحافي الياس عبود، ابن بلدتي القرعون ووالد الشهيدة لولا عبود، كاميرَته ودفتره وقلمه وجال في بلدات وقرى حوض الليطاني من منبعه في العلاق الى مصبه في القاسمية واجرى مقابلات في 100 بلدة وقرية على امتداد ال 170 كلم التي ينساب عليها النهر، ونشر تحقيقه في جريدة السفير تحت عنوان “الليطاني: نهر المليون فقير”. كان هذا عشية الحرب الاهلية والفروقات الاجتماعية الواسعة والانماء اللامتوازن، واستضعاف الدولة. وحدث ما حدث بعدها من مآسي ودمار وتفكك لاوصال الدولة وانقسام المجتمع.
وها نحن بعد ما يقارب نصف قرن، في لحظة مشابهة:
مليون فقير واكثر بين لبناني ولاجئ يعيشون على ضفاف النهر في محافظة بعلبك، وبلدات قضاء زحلة والبقاع الغربي وقرى الجنوب والنبطية، ودولة تتوهن مؤساستها كل يوم، وتلوث يتضاعف عبر السنوات والعقود.
هل اصبح هذا النهر العظيم لعنة على اهل بعلبك والبقاع والجنوب؟ وهل الاستعصاء قدرا؟
بالطبع لا.
فالتلوث القاتل من صرف صحي (او غير صحي)، والمكبات العشوائية، ونفايات المصانع والمستشفيات، وبقايا الاسمدة السامة وغيرها من المخلفات ليست قدرا بل من صنع انسان غير مسؤول وضعف مؤسسات متلكئة. فليس الحل مستعصيا اذا نظرنا في جوهر المشكلة وجوهر جل المشاكل البيئية نراها في غياب سيادة القانون وضعف المحاسبة وعدم احقاق العدالة – والعدالة البيئية بشكل محدد.
وهذا ما يعطي الحوار الذي ينظمه صندوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بعنوانه واهدافه وجلساته، اهمية لانه يقارب جوهر الاشكاليات حول حوض الليطاني المتمثلة في غياب الحوكمة، في عنوانها الواسع وتفاصيلها. ونعول جدا على هذا الحوار للخروج بتوصيات عملية وقابلة للتحقق وبجدول زمني منطقي، بل ادعو الجميع الى تحمل مسؤولياتهم على مستوى الوزارات والادارات والبلديات والمنظمات الدولية والجمعيات لانقاذ النهر والسكان القاطنين على حوضه، لمرة اخيرة، والتخفيف من فلكلوريات العمل والتفكير خارج المألوف، لانها فرصتنا الاخيرة.
نحن في وزارة البيئة لم نتراجع عن تقديم كل ما يلزم لانقاذ نهر الليطاني، منذ اليوم الاول لتولي مسؤولياتي منذ 12 شهرا وضعت قضية الحد من تلوث الليطاني كاحدى الاولويات وعملت عليها مع فريق العمل وشركائنا في المنظمات الدولية والادارات الرسمية والبلديات، ونجحنا بعد مفاوضات طويلة على نقل وفر من مشروع مكافحة تلوث بحيرة القرعون الممول من البنك الدولي وتحويله لاعادة تأهيل وتطوير منشآت ادارة النفايات الصلبة في الحوض الاعلى من النهر في بعلبك، زحلة، بر الياس، وجب جنين، ووافق مجلس الوزراء في 21 ايار على هذا الاقتراح وبدأنا بالتعاون مع مجلس الانماء والاعمار والبنك الدولي وبرنامج الامم المتحدة الانمائي بتحديد الحاجات لمنظومات النفايات الصلبة الاربعة ويجري الان وضع دفاتر الشروط لاطلاق عملية تلزيم التطوير والتحديث.
نعمل بشكل يومي مع المصلحة الوطنية لنهر الليطاني حيث سنوقع مذكرة تفاهم وتعاون خلال الايام الاتية لتنظيم الية التعاون في مجالات عدة، منها البحثي والرقابي لاستخدام مختبرات المصلحة في خربة قنافار، ولحماية حوض النهر من التعديات حيث قدمنا مشروعا لاعلان الحوض الجنوبي للنهر موقعا طبيعيا ارسل للوزارات والادارات لابداء الرأي به واعلانه بمرسوم في الحكومة المقبلة، وكذلك في تطوير منظومات النفايات الصلبة في المناطق الواقعة على حوض النهر بالتعاون مع البلديات. ونعمل ايضا مع مصلحة الليطاني ووزارة الزراعة في موضوع الثروة السمكية النهرية ونحن في صدد وضع مشروع لتعزيز مزارع الاسماك النهرية بالتعاون مع المنظمة العربية للتنمية الزراعية.
على المستوى الاستراتيجي، وضعنا ضمن توجهاتنا الاستفادة القصوى من فرض التمويل المناخي المتاحة عبر صناديق التمويل الاخضر التركيز على البرامج والمشاريع التي تقارب الادارة المتكاملة لاحواض الانهر وعلى رأسها حوض نهر الليطاني.
بعد نصف قرن مما كتب الياس عبود فلنتحمل مسؤولياتنا جميعا كي لا يعود اولادنا واحفادنا للتذكير بنهر المليونين فقير بعد نصف قرن اخر.