النفط في البرّ أيضاً… يحمر وسحمر شاهدتين

كتبت نظمية الدرويش،

على أعتاب الوصول إلى تفاهم يتيح للبنان استخراج النفط والغاز بحراً، يستعيد «أهل البرّ» حكاياتهم مع محاولات التنقيب عن النفط في قراهم. فإلى عدلون في الجنوب، كانت قرى سحمر ويحمر والقاع في البقاع مسرحاً أيضاً لعمل الشركات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. آبار عديدة حُفرت، ثم رُدمت من دون أن يقتنع الأهالي بالحجج التي قُدّمت إليهم مصرّين على حيازتهم «الذهب الأسود»
سجّلت بلدتا سحمر ويحمر، النائيتان في البقاع الغربي، أول تجربة تنقيب عن النفط، سرعان ما انتهت. ففي 10 آب 1955، حصلت شركة «الزيوت اللبنانية» على أوّل امتياز لتطوير الآبار واستخراج البترول. وعقدت اتفاقيات مع شركات أجنبية لحفر خمسة آبار في مناطق مختلفة

الهنغاريون في يحمر
بمحاذاة الطريق العام في بلدة يحمر (البقاع الغربي)، ما يزال البئر الاستكشافي النفطي الأوّل في برّ لبنان واضح المعالم في «جلّ الغزال». بداية عام 1956، حلّت في البلدة بعثة هنغارية للتنقيب عن النفط، بناء على اتفاق مع شركة ‏«الزيوت اللبنانية». لأشهر قليلة دامت أعمال حفر البئر قبل أن تغلق الشركة البئر وتغادر.
الأسباب التي توافرت للأهالي حينذاك تباينت بين «الاختلاف على الحصص بين الدولة من جهة والشركة الهنغارية المسؤولة عن التنقيب من جهة ثانية، وبين قلة الكمّيات غير الصالحة للتجارة». وإذا كان الشك يكتنف سبب إنهاء الأشغال، فإن اليقين يحسم وجود مواد نفطية في البئر.


منذ 66 عاماً، يتمنى أهالي يحمر استعادة مشهد التنقيب. لكن في المرة المقبلة، لن يكونوا على غشاوة كما كانوا سابقاً عندما لم يفهموا ما تفعله البعثة، التي تألفت يومها من ثمانية مهندسين هنغاريين يعاونهم ثلاثة مهندسين لبنانيين على رأسهم جورج صباغ، الذي كان حلقة الوصل بين الشركة الهنغارية والعمال اللبنانيين. نزل الهنغاريون في فنادق زحلة، بينما سكن اللبنانيون في يحمر، في أحد نواحي منزل عائلة عبد الرسول. استفادت البلدة من سكنهم بعدما نسجوا صداقات مع أهاليها، فاستخدموا منهم عمالاً يوميين. لكن الإفادة الأعمّ كانت جرّ المياه إليها من بلدة سحمر المجاورة للمساعدة في عملية الحفر.
شُرّطت منطقة الحفر بالكامل ومُنع أيّ أحد من الدخول. محمد عبد الرسول (87 عاماً) عمل في موقع الحفر مقابل ليرتين ونصف يومياً. «كنا كعمال موزعون ضمن ثلاثة طواقم طوال ساعات اليوم. كلّ طاقم يتألّف من ثمانية أشخاص، اثنان منهم من البلدة يعملان تحت إمرة فريق الحفر ومهمّتهما تنفيذ الأعمال اليدوية». ظلّ البئر جزءاً من حياة عبد الرسول. لاحقاً أصبح جار أطلاله برغم أن معالمه لم تتبدّل. شقيقه الأكبر نجيب (100 عام) عايش مهمة التنقيب لفترة أطول «بحزم، كان المسؤولون يمنعوننا من التدخين. وكانوا يخططون للتنقيب في موقع آخر في البلدة، لكنهم أغلقوا البئر بالإسمنت وغادروا». والسبب نقلاً عن أحد المهندسين الذين عمل معهم «الخلاف مع الدولة اللبنانية حول توزيع نسب عائدات الاستخراج». زميله حسين الشوباصي يوافقه الرأي بأن السبب وراء إقفال بئر يحمر «خلافات على الحصص».
و«الطليان» في سُحمر
في وادي علي زين في جرد سحمر المجاورة على ارتفاع 110 أمتار، يقع البئر الاستكشافي الذي ما يزال على حاله. حفرة ملبّسة بـ«قميص حديدي»، محاطة بجدار من الحجارة تخبر حكاية رُدمت سريعاً. سحمر لزّمت إلى شركة إيطالية للتنقيب عام 1963، بعدما استحصلت الدولة على موافقة مالكي العقار (طرابلسي ورزق وفارس). في فنادق زحلة، نزل أفراد البعثة، واعتمدوا في تواصلهم مع المحيط على اللغة الفرنسية.
حسين منعم (95 عاماً) كان كبير التقنيين والعمال اللبنانيين في موقع الحفر، مستفيداً من شهادته في الميكانيك. بيديه، حرّك منعم آلة الحفر مقابل 300 ليرة شهرياً. في المقابل، كان هناك 16 مهندساً وفنياً إيطالياً و20 عاملاً يومياً يتوزعون ضمن برنامج على مدار الساعة من الحفر المتواصل. بحسب منعم «لم يتوقّف الحفر طوال أشهر إلا مرتين، الأولى عندما نفث أحدهم سيجارة والثانية عندما تسرّبت المياه إلى البئر من الجدران الجانبية وبقينا خمسة عشر يوماً وليلة ندكّ التبن والتبغ وراء القميص الحديدي لسدّ مصادر التسرّب».
أما أحمد كريم فقد كان أصغر العمال اللبنانيين. في الخامسة عشر من عمره آنذاك، كُلّف بالمهام اليدوية الخفيفة مقابل خمس ليرات يومياً. أكثر ما علق في ذاكرته قول أحد المهندسين الإيطاليين لزميله بأن بئر سحمر سيكون «أول بئر في الشرق الأوسط يمتلك مخزوناً من الغاز الطبيعي». وبعد أيام من ذلك القول التاريخي، زار الموقع «وفد من وزارة الطاقة يرافقهم مهندس فرنسي. منعم كان من بين المدعوين إلى احتفال تكريمي أقيم على شرف الموظفين والعمال واعتبرنا أنه تأكيد على استكشاف الغاز. لكن الفرحة لم تدم. أقفلت الشركة البئر بأربعين طناً من الإسمنت وفكّكوا معداتهم وغادروا».

مطالب بإعادة فحص الآبار التي أُغلقت من دون أسباب علمية موجبة
عمال من البلدة كانوا شهود عيان على الحفر الذي وصل إلى عمق 1522 متراً في باطن الأرض. ثم توقفت الآلة الإيطالية «لأن لا قدرة لها على الحفر أعمق» كما قالت الشركة. تبرير لم يقنع الأهالي، بسبب الأهمية التي حظي بها بئر بلدتهم في وسائل الإعلام التي تهافت مراسلوها إليهم. لم يمزّق أهالي سحمر صفحة الذهب الأسود. بحسب إبراهيم طرابلسي أحد مالكي العقار «لا يوجد لدينا شكّ بأن منطقتنا تحوي في باطنها النفط والغاز. وهو ما أكده جدي الذي واكب مهمة البعثة الإيطالية التي استنتجت وجود هذه المواد في البئر». لاحقاً، استخدم بعض أبناء سحمر نفوذهم في إثارة حقوقها النفطية. عام 1998، عيّن ابن مشغرة سليمان طرابلسي وزيراً للطاقة في حكومة الرئيس سليم الحص. «أعاد تحريك ملف الآبار النفطية في البر، لكن من دون جدوى» قال طرابلسي.

بيار الحمّر في سحمر
في التلال القريبة للوادي الذي يحتضن البئر الاستكشافي في بلدة سحمر تقع آبار أخرى مفتوحة قبله بمئات السنين. آبار تعود إلى العهد الروماني تحتوي مادة الإسفلت ويعرفها الأهالي باسم «بيار الحمر». الآبار الثلاثة التي خضعت للتنقيب في العهد العثماني، محفورة في الصخر بعمق عشرات الأمتار تحت باطن الأرض، يصلها من أسفل التلّ نفق بطول عشرات الأمتار أيضاً. يُرجّح رئيس بلدية سحمر السابق نعمة الله غسّان منعم بأن وجود المادة الإسفلتية في باطن الأرض مرتبط بإمكانية وجود النفط والغاز في طبقاتها الصخرية الأدنى.
واكب منعم تحريك ملف بئر سحمر مرات عدة من دون جدوى. والده كان أحد العمّال الذين حفروه. أما هو فقد عايش جهود مهندس البترول الراحل غسّان قانصوه في الضغط على الدولة من أجل «إعادة فحص الآبار التي أغلقتها الشركات الأجنبية من دون أسباب علمية موجبة». وفي عهد رئاسة لمجلس البلدي، اشترت البلدية أسهماً في العقار حيث يقع البئر «إذا ما تمّ فعلاً استخراج النفط والغاز منه، تستفيد البلدية من عائداته».

المصدر: الأخبار

Exit mobile version