الشيخ د. وفيق حجازي
إن الإنسان بطبعه محتاج للآخرين، ولا يمكن لأحد أن يستقل بشؤونه بنفسه، وإنما يتطلب كل ذلك أن يتعاون الجميع كل في اختصاصه لتستمر أمور الحياة، فهذا يقدّم ماله، والآخر يقدّم خبرته وعمله، وثالث يقدّم نتاجه، وحركة الحياة وعمران الأرض لا يمكن أن تكتمل دون أن تتباين أدوار البشر وتتنوع مسؤولياتهم وتتعدد اهتماماتهم، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم}، وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًّا}، ومن هنا فإن الإسلام يوجّه الأغنياء إلى التواضع وعدم التكبّر على العمّال، ويجعل لهؤلاء حقوقا على أولئك يجب عليهم أن يؤدّوها بدون مماطلة ولا نقص فصاحب المال ينبغي أن يتواضع مع العامل ولا يترفّع عليه لأنه قد يكون أعظم درجة منه عند الله، وليس الفضل بكثرة الأموال ولا بعظم الأجسام, ولا بغير ذلك من متاع الدنيا وزينتها ومظاهرها، وإنما الفضل بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
العدل أساس التعامل
ولكي تنضبط حياة الناس في أعمالهم، ولا يستغل أصحاب العمل من العمال أو العكس، وضع الإسلام ضوابط بين العامل وأصحاب العمل بحيث لا يغبن أحدهما، ولا يتم الإجحاف، فإذا اشترك صاحب المال والعامل، الأول بماله، والثاني بجهده وعقله في تنمية المال واستثماره، فهذا يُسمّى مضاربة، وفي حالة الخسارة فإنها تكون على صاحب المال من مال المشاركة، فإن شرط أن تكون الخسارة على العامل فهذا ظلم لا يجوز، لما في ذلك من ظلم العامل؛ إذ لو جاز ذلك لكانت الخسارة بنوعيها على العامل، خسارة المال، وخسارة الجهد والتعب والمشقة، فيذهب العامل بالخسارة كلها، ويبقى صاحب المال إما رابحا في حالة الربح، وإما محافظا على رأس ماله في حالة الخسارة، والقاعدة المطبقة في المضاربة أن الربح على ما اتفقا والخسارة على صاحب المال، وإلا كانت مضاربة فاسدة، وكل ذلك مشروط بعدم التفريط والتعدي والإهمال، وإلا ضمن لتفريطه وتعدّيه ومن الواجب على صاحب العمل عدم المماطلة في دفع الأجرة لما ورد في الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللّه: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَه».
فلا يقبل التهاون في إعطاء صاحب الحق حقه، ولا يقبل أن يماطل في أداء الحق، ومن الظلم الماحق بالعامل وخاصة في هذه الأزمة التي لحقت بلبنان هو ألا يعطيه حقه مع تبدّل سعر الصرف وهو بالمقابل يتعامل في تجارته على سعر السوق وهذه طامة كبرى وظلم بين وإجحاف ماحق، ولذلك يلحظ في الحديث الخصومة من الله تعالى لمن ظلم العامل حقه بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره -وفي رواية حقه- قبل أن يجف عرقه)، وهذا يبيّن أن التوجيه النبوي يتعلق بتأخير حق الأجير.
أما عدم إعطاء الأجير أجره ومنعه منه بالكلية فذلك من كبائر الذنوب، لما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، وفي الحديث: وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الأعمال إلى معاملة العمال معاملة كريمة، وإلى الشفقة عليهم، والبرِّ بهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال، بل ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم بدرجة العامل والخادم إلى درجة الأخ، وهذا ما لم يُسْبَق في حضارة من الحضارات، أو في أمة من الأمم، فقال -صلى الله عليه وسلم- (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم).
الاستغلال محرّم
فيجب على صاحب العمل أن يوفي العامل حقوقه التى اشترطها عليه، وألاّ يحاول انتقاص شيء منها، لأنه ظلم عاقبته وخيمة، وعليه ألا ينتهز فرصة حاجة العامل الشديدة إلى العمل فيبخسه حقه، ويغبنه في تقدير أجره الذى يستحقه نظير عمله، وعليه أن يحفظ حق العامل كاملاً إذا غاب أو نسيه، وألّا يؤخّر إعطاءه حقه بعد انتهاء عمله، أو بعد حلول أجله المضروب، كما يجب على صاحب العمل ألا يضن على العمل بزيادة في الأجر إن أدّى عملاً زائداً على المقرر المتفق عليه، فإن الله يأمرنا بتقدير كل مجهود ومكافأة كل عمل، وعليه أن يحفظ كرامة العامل، فلا يضعه موضع الذليل المسخّر أو العبد المُهان، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل مع الأجير ويساعده في احتمال أعباء ما يقوم به من عمل، كما لا يصح أن يضرب صاحب العمل العامل أو يعتدي عليه، فإن ضربه فعطب كان عليه الضمان، كما انه لا يجوز استغلال العامل، وعدم إعطائه ما يستحق من أجر بسبب حاجته إلى المال، لحديث لا ضرر ولا ضرار وهذه قاعدة نبوية عامة وأصل عظيم من أصول الدين، فإن الفرد إذا التزم بصيانة حقوق غيره وعدم الإضرار بها، فإن من شأن ذلك أن تقلّ المنازعات بين الناس، فينشأ المجتمع على أساس صيانة الحقوق والاحترام المتبادل بين أفراده، والإسلام بتشريعاته المتعلقة بالعمال وحقوقهم له فضل السبق على الأنظمة والقوانين الأخرى في حفظ حقوق العمال والخدم بغض النظر عن ديانتهم وجنسياتهم، وجعل العلاقة بين صاحب العمل والعامل تحكمها قاعدة واضحة تكمن في أنه على الأجير أن يحسن عمله على الوجه الأكمل ويراقب اللهَ فيه، لحديث إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه، فعلى صاحب العمل أن يحفظ للعامل حقه المادي وحقه المعنوي بلا قهر أو إذلال، أو احتقار أو إساءة معاملة، مع معاملته برحمة وشفقة، والمسارعة في إعطائه حقه. فعدم إعطاء العامل أجره فيه أكل لأموال الناس بالباطل.
تعديل الراتب بما يحفظ كرامة العامل
وإن الأزمة التي أصابت هذا الوطن ونتج عنها تغيّر سعر الصرف الدولار مع العملة الوطنية بحيث ارتفعت الأسعار أضعافا مضاعفة فوق المائة بالمائة، وبالمقابل كانت السلع والبضاعة تباع بسعر السوق ومن هنا فلا يقبل شرعا أن يعطى العامل أجره على سعر السوق عند التعاقد فهذا ظلم بيّن وغير جائز بل يلزم أن يكون الأجر للعامل منضبطا بسعر السوق كي يتمكن من الاستمرار والإنتاج ويستمر العمل، فتغيّر القيمة النقدية للعملة يتطلب النظرة المتوازنة والمرتبطة بالمصلحة العليا للعامل كما لصاحب العمل وهذه هي العدالة التي أرساها الإسلام من خلال وضعه للتشريع المتعلق بالعامل وصاحب المال، والمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل مشروع وهو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه الإنسان سواء كان عملا دنيويا أم أخرويا، وللخروج من الأزمة التي أصابت هذا الوطن، فلا بد من إعطاء العمال حقوقهم، وضبط سعر السوق وجودة العمل والإنتاج وخاصة أن السوق تنافسية وكل حق يقابله واجب ومن الواجب عدم ظلم العمال وعدم التقصير منهم تجاه العمل وهذا من تعاليم الإسلام وقيمه الرائدة.