كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
أعلنت المملكة العربية السعودية حالة الاستنفار السياسي لإحباط محاولات الانقلاب المحلية والدولية والإقليمية على وثيقة الوفاق الوطني في لبنان تحت وطأة التحوّلات الكبرى الجارية في العالم وما أحدثته وتحدثه الحربُ الروسية على أوكرانيا من تغييرات في التحالفات والعلاقات بين عواصم العالم، حيث برزت معالم تفاهمات تلتقي بمخاطرها على لبنان لجهة سعي طهران إلى تفكيك الحصانة الدولية الضامنة لاتفاق الطائف من خلال اصطفافٍ أميركي – فرنسي – إيرانيّ يضغط باتجاه ما سبق للرئيس الفرنسي مانويل ماكرون «عقداً اجتماعياً جديداً».
صفقات دولية تهدد لبنان الكيان
مخاطر هذا الاصطفاف لا تهدّد لبنان بتغيير دستوره فقط، بل إنّها تهدّد طبيعته وكيانه التاريخي وتحولّه مرتعاً للصفقات القذرة التي تجري من وراء سِتار، ولا يمكن توقّع كيف ستكون هذه الحرب، سياسية أم عسكرية، لكنّ نُذُرها بدأت بالظهور.
لم يعد خافياً على المدقّقين في التطورات المتسارعة أنّ الإدارتين الأميركية والفرنسية توصلتا إلى تفاهم مع النظام الإيراني يقضي بتأجيل البتّ بالاتفاق النووي الإيراني إلى ما بعد الانتخابات النصفية في أميركا، والانتقال لعقد صفقات التسويات السياسية والأمنية والنفط والغاز لتأمين الطاقة إلى أوروبا ولحصار السعودية وإخراجها من المنطقة، ومحو كلّ بصماتها وخاصة من لبنان، رغم اللغة الدبلوماسية السائدة بين الرياض وباريس.
هذا هو عنوان المرحلة المقبلة من الصراع، رغم كلّ مناورات الممانعة من طهران حتى بيروت، فصفقة ترسيم الحدود بين لبنان والكيان الإسرائيلي تتضمّن هدنة وافق عليها «حزب الله» لمدة 25 عاماً يضمن خلالها أمنَ الحدود ويمنع أيّ خرق لها يستهدف أمن «إسرائيل»، وهذا ما بدأ بعض المحسوبين على الحزب الإشارة إليه علانية، لتحظى طهران في المقابل برفعٍ شبه كامل لحظر الاستيراد والتصدير عنها وصولاً إلى بيع الطائرات المسيّرة لروسيا.
من نتائج هذه الصفقة سقوطُ كلّ شعارات ما يسمّى المجتمع الدولي حول القرارات الدولية ودعم الدولة والسيادة الوطنية، لتصبح الأولوية ضمان أمن «إسرائيل» والحصول على النفط والغاز منها ومن لبنان وصولاً إلى قبرص.
من أخطر عيوب اتفاق ترسيم الحدود أنّه جاء وفق اتفاقية غامضة مخفية البنود ومجهّلة التفاصيل، وتضمّنت ملاحقاً تفيد بأنّ الاتفاق – الصفقة يتضمّن أن تدفع شركة توتال الفرنسية تعويضات طويلة الأمد من حصة لبنان للجانب الإسرائيلي، لكنّ أخطرها الإقرار بدور «حزب الله» في حماية الحدود واستبعاد الدولة ومؤسساتها الشرعية.
ارتداد «حزب الله» على الداخل
هذا التطوّر سيعني انقلاباً عنيفاً من «حزب الله» نحو الداخل اللبناني، وبدء إسقاط الأقنعة المذهبية، ولكنّ هذا التحوّل مرتبط بالتطوّرات الدولية وبزخم الانتفاضة الشعبية المتنامية في إيران، بما لها من تأثير في سياسات طهران وأذرعها في المنطقة، وخاصة في لبنان.
السعودية تتحرّك للجم المخاطر
بدأ سفير خادم الحرمين الشريفين في لبنان وليد بن عبد الله بخاري منذ أشهر تحرّكاً مُرَكّزاً عنوانه الأساس الحفاظ على وثيقة الوفاق الوطني والتحذير من أنّ الانقلاب على دستور الطائف سيعني زوال الكيان اللبناني، بما أرساه من إنهاء الحرب الأهلية وإعادة تكوين السلطة على قواعد متوازنة، شوّهها سوء التطبيق واستفراد النظام السوري بالساحة اللبنانية ثمّ الخضوع للهيمنة الإيرانية التي تحوّلت احتلالاً كامل الأوصاف.
بعثت قيادة المملكة العربية السعودية سلسلة رسائل دولية وإقليمية تحذِّر من المساس باستقرار لبنان وفي هذا الإطار برز كلام الملك سلمان بن عبد العزيز في افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشورى السعودي والذي جاء فيه: «.. في لبنان نؤكد ضرورة تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة تقود إلى تجاوز أزمته، وأهمية بسط سلطة حكومته على جميع الأراضي اللبنانية لضبط أمنه والتصدي لعمليات تهريب المخدرات والأنشطة الإرهابية التي تنطلق منها مهدّدة لأمن المنطقة واستقرارها».
وبرزت أيضاً تغريدة للسفير السعودي وليد بخاري عبر «تويتر» أكّد فيها أنّ «وثيقة الوفاق الوطني عقد مُلزم لإرساء ركائز الكيان اللبناني التعددي، والبديل عنها لن يكون ميثاقًا آخر بل انفكاك لعقد العيش المشترك، وزوال الوطن الموحَّد واستبدالهُ بكيانات لا تُشبه لبنان الرسالة».
قام السفير بخاري بجولات في عدد من المناطق، كان من أهمّها وأكثرها دلالة، زيارته إلى طرابلس، بما حملته من إشاراتٍ ورسائل انفتاح وصلابة في الموقف، من خلال لقاءاته بالشخصيات الطرابلسية والشمالية، وكذلك زيارته إلى البقاع التي لاقت حفاوة شعبية ظاهرة، ولم يؤثّر على مسارها الإشكال المحدود في الفاعور، وبرزت لقاءاته البقاعية بدلالاتها ورمزيتها في البيوت السياسية التي زارها، وأبرزها دارة الوزير الراحل إلياس سكاف حيث استقبلته رئيسة الكتلة الشعبية السيدة ميريام سكاف، والاجتماع بالنائب حسن مراد وما صدر عن اللقاءين من مواقف تؤكد على دور المملكة في حفظ استقرار لبنان وحمايته من عوامل الاستهداف.
أضاف السفير بخاري محطتين هامتين لجولته البقاعية. الأولى هي تفقّده لمؤسسات أزهر البقاع حيث استقبله مدير عام مؤسسات الأزهر الشيخ الدكتور علي الغزاوي بحضور النائبين حسن مراد وبلال الحشيمي وعدد كبير من الأئمة والمشايخ والقضاة ورؤساء البلديات.
أما المحطة البقاعية الثانية المهمة للسفير بخاري فهي لقاؤه على مدى أكثر من ساعة ونصف مجلس أساقفة زحلة والبقاع في مطرانية سيدة النجاة، حيث استقبله على مدخل المطرانية النائب الأسقفي العام الأرشمندريت نقولا حكيم وبعض كهنة الأبرشية، كما شملت لقاءاته رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك المطران إبراهيم مخايل إبراهيم، راعي أبرشية زحلة المارونية المطران جوزف معوض، راعي أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس المتروبوليت انطونيوس الصوري، راعي أبرشية زحلة للسريان الأرثوذكس المطران بولس سفر، المعتمد البطريركي الأنطاكي في روسيا المتروبوليت نيفن صيقلي ونقيب أطباء لبنان في بيروت البروفسور يوسف بخاش.
لوّن السفير بخاري لقاءاته بألوان المجتمع اللبناني وصبغته القائمة على الشراكة الإسلامية – المسيحية ودعم هويته الحضارية ورفض الاعتداء عليها.
الاحتفاء بالذكرى الثالثة والثلاثين لتوقيع الطائف
في إطار تثبيت الموقف السعودي – اللبناني المشترك، دعا السفير بخاري إلى لقاءٍ جامع بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لإبرام وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (الطائف)، يوم السبت المقبل الخامس من تشرين الثاني 2022 في قصر الأونيسكو – بيروت، وهو احتفال يعلن بوضوح الموقف الثابت والمستمرّ للمملكة العربية السعودية من الإصرار على دعم هذا الاتفاق التاريخي، وضرورة استكمال تطبيقة وخاصة في مجال الإصلاحات الدستورية: إلغاء الطائفية السياسية وتحرير مجلس النواب من القيد الطائفي، إنشاء مجلس الشيوخ وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة.
يغرّد السفير بخاري «ذكرى مرور ( 33 ) عاماً على توقيع إتفاق الطائف، الاسم الذي تُعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، التي وضعت بين الأطراف المتنازعين في لبنان، في 30 أيلول 1989 في مدينة الطائف وأقرّ بتاريخ 22 تشرين الأوّل 1989 منهياً الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على اندلاعها».
إنّ اتفاق الطائف ووثيقة الوفاق الوطني التي نتجت عنه وأنهت الحرب الأهلية، هو اتفاق تأسيسي للدولة اللبنانية وعمر الاتفاقات التأسيسية ما لا يقلّ عن مائة أو مائتي عام، لا يمكن عند كلّ محطة توترّ مفتعلة طرح إعادة النظر فيه أو إلغاؤه لأنّ فريقاً يعتقد أنّه بسلاحه يستطيع فرض الغلبة على بقية اللبنانيين.
الأولوية لرئيس سيادي
تكمن الأولوية في هذه المرحلة في ضرورة انتخاب رئيس جمهورية سيادي يمضي في تطبيق إصلاحات اتفاق الطائف السياسية وأبرزها: إلغاء الطائفية السياسية وتحرير مجلس النواب من القيد الطائفي، إنشاء مجلسٍ للشيوخ وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، ومن الواضح أنّ أغلب الإشكالات السياسية التي يعانيها لبنان ناتجة عن عدم تطبيق هذه الإصلاحات، واجتراح بدعٍ دستورية جرى تركيبها بالقوّة القاهرة في قوانين الانتخابات وتشكيل الحكومات، مثل الثلث المعطِّل والوزير «اللغم» (الملك)، وغيرها من وسائل العدوان على الدستور.
أهمية ملاقاة حركة بخاري من أهل الطائف
ما يقوم به سفير خادم الحرمين الشريفين وليد بن عبد الله بخاري من نشاط متعدّد الأوجه، يجب أن يقوم به ويلاقيه اللبنانيون في إبداء تمسّكهم واستعدادهم للدفاع عن دستورهم الذي يضمن التوازن ويمنع طغيان فئة على أخرى، وهذا العنوان، هو طرح جامع، أعلى من مستوى التنافس السياسي، فعليه تُجمع المرجعيات الدينية ويتفق عليه كامل الطيف السيادي، وقسم من معسكر الممانعة: الرئيس نبيه بري والنائبان الأسبقان سليمان فرنجية ووليد جنبلاط.
أمّا أهل السنّة والجماعة، فيجب أن يشكّلوا رأس الحربة في الدفاع عن دستور الطائف، لأنّ إلغاءه هو إلغاءٌ لهم من المعادلة، وهذا يوجب على الساسة منهم وعلى الأحزاب والتيارات المدنية والهيئات والحركات الإسلامية أن تضع الأولوية الآن في التصدّي للحرب التي لم تعد صامتة ولا خافية على الدستور.
والضلعُ الأهمّ في هذه المواجهة أن يتلاقى المسلمون والمسيحيون بمرجعياتهم الدينية وأحزابهم وتياراتهم، في إطار شراكة وطنية جامعة، لمنع هدم هوية لبنان العربية والحضارية المبنية على التنوّع والتكامل، وهنا يجب أن يخلع الجميع رداء التحفّظ وأن يلقوا جانباً اعتبارات التنافس أو ذيول الحرب، فما يهدِّد لبنان شعبه ربما تكون حربنا السابقة فصلاً صغيراً في كتابه المشؤوم، فالتحالف حول الطائف فوق الانقسامات السياسية.