دعا سفير لبنان في فرنسا رامي عدوان، في سابقة لم تشهدها الدبلوماسية اللبنانية يوماً، الى عقد “لقاء عائلي”، على شرف “الطائفة اليهودية اللبنانية”، في الأوّل من تشرين الثاني المقبل، في مقر السفارة في باريس.
الدعوة التي تلقاها عدد محدود من اللبنانيين المقيمين في فرنسا، والذين يمثّلون أو ينتمون الى جميع الطوائف اللبنانية، لفتت إلى أنّ “وجود الطائفة اليهودية اللبنانية في لبنان ودول الإنتشار هو مصدر فخر وعلامة فرادة لبلدنا”.
ووفق الكلمة التي أرفقت ببطاقة الدعوة، فإنّ “على لبنان، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، أن يروّج لنموذجه الشامل، ونحن نعرف بدقة أنّ مستقبلنا لا يعتمد الا على قدرتنا على أن نبقى موحدين، وعلى إرادتنا في مواصلة انفتاحنا على العالم وثرواته”.
وعلى الرغم من فرادة هذا الحدث، إلّا أنّه يندرج، في سياق المنطق الدستوري اللبناني، إذ إنّ الطائفة اليهودية معترف بها رسمياً، تحت إسم “الطائفة الإسرائيلية”، وفق التسمية التي أعطاها الإنتداب الفرنسي للطائفة اليهودية، وذلك قبل قيام دولة إسرائيل.
وعلى الرغم من موجة الهجرة التي فرّغت لبنان من يهوده، إذ لم يبقَ فيه، وفق بعض المصادر، سوى 29 شخصاً من أصل أربعة آلاف مدرجين على لوائح الشطب الانتخابية، فإنّ كثيراً من اللبنانيين اليهود الموجودين في فرنسا وغيرها من دول العالم، لا يزالون يصرّون على أن يتم التعاطي معهم على أساس أنّهم من أصول لبنانية.
وفي مناسبة إعادة افتتاح الكنيس اليهودي في وادي بو جميل، في وسط بيروت، في العام 2014، لم يبق طرف لبناني إلّا وأعلن أنّه لا يمزج بين اليهود من جهة، والصهيونية من جهة أخرى.
وفي سرد تاريخي، للطائفة اليهودية في لبنان، يتّضح أن عدداً كبيراً من اليهود، وفي ضوء المشاكل التي عانوا منها في دول عربية عدة، في ضوء قيام دولة إسرائيل، لجأوا الى لبنان ولم يذهبوا الى إسرائيل، حتى إنّ كثيرين منهم، عندما أجبرتهم الظروف التي تتالت، منذ العام 1967 حتى العام 1976 على مغادرة لبنان، اختاروا مثلهم مثل سائر اللبنانيين، المغتربات “التقليدية”-فرنسا إحداها-بدل أن يذهبوا للعيش في إسرائيل.
ففي العام 1922، كان يعيش في لبنان 3500 يهودي. عددهم ارتفع في العام 1947 الى 5950 نسمة، ليصل الى 7000 شخص في العام 1967، قبل أن ينخفض الى 1800 شخص، في العام 1974.
ومثل كثير من المغتربين اللبنانيين، يشغل “يهود لبنان” وظائف مهمة في فرنسا، وقد ارتفع اهتمامهم بلبنان، الى وتيرة غير مسبوقة، في الآونة الأخيرة، ولا سيما في ضوء انفجار مرفأ بيروت الإجرامي.
هؤلاء اليهود اللبنانيون، وعلى الرغم من لهفتهم إلى “ارض الطفولة” أو “مرقد الآباء والأجداد”، لديهم مشكلة في التعاطي مع لبنان الرسمي، إذ يعتقدون، تأسيساً على تجارب خاصة، وفي ضوء أدبيات بعض الأطراف السياسية، أنّه “يتهرّب منهم” أو “يتجنّبهم” أو لا ينصت الى طلباتهم، على اعتبار أنّهم “تهمة” أو “وجع رأس” أو “همّ بالزائد”.
ويبدو أن السفير عدوان الذي كان يصادف هؤلاء إفرادياً في تنقّلاته في فرنسا واتصالاته الرسمية والعامة، قرّر إزالة هذا الإنطباع من أذهان اللبنانيين اليهود، وتوصّل إلى قناعة بوجوب جمع ممثلين عنهم في السفارة مع ممثلين عن جميع العائلات الروحية اللبنانية الأخرى، ليعيد وصل ما انقطع بينهم وبين لبنان الرسمي، من جهة ولبنان الشعبي، من جهة أخرى.
ولم تسجّل السفارة اللبنانية في فرنسا أيّ اعتراضات تذكر، بعد توزيع بطاقات الدعوة، ما يعني أنّ الأرضية التي ينطلق منها السفير اللبناني في باريس، جاهزة لحدث مماثل.
وإذا كان من الطبيعي أن تتفاعل الغالبية الساحقة من الجالية اللبنانية في فرنسا إيجاباً مع هذا الحدث، فإن لا شيء يمكن أن يحول دون أن تتقبّله غالبية اللبنانيين، لأنّ التجربة اللبنانية المريرة دلّت على أنّ الخلط بين الإنتماء الديني والإنتماء السياسي يولّد المآسي، من جهة ويفقد البلاد الطاقات التي يحتاجها، من جهة أخرى.
ولا يمكن لبلد يقدّم نفسه للعالم على أنّه “نموذج التعايش” أن يصمت على شعور فئة من مواطنيه بـ”النبذ”، في حين أنّ إسرائيل التي تقدّم نفسها للعالم على أساس أنّها “دولة اليهود” تستضيف ثلاثة آلاف لبناني لجأوا إليها بعد انسحابها من جنوب لبنان، قبل إحدى وعشرين سنة.
إنّ “اللقاء العائلي” على شرف اللبنانيين اليهود في السفارة اللبنانية في باريس، لن يدفع، بطبيعة الحال، بـ”المكرَّمين” الى العودة الى لبنان، ليس لأنّ أبناءه المقيمين يسلكون درب الهجرة فحسب، بل أيضاً لأنّ “الإحتضان الرسمي” لا يُعفي من أنّ لبنان محكوم، بمنطق “مزاجية القوة”، وليس بمنطق الدستور والحقوق والمساواة والعدالة.