“الحراميي متليين الدني”.. وهكذا يحمي الأهالي أنفسهم!

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”: 

«له له له… ملّا بلد». إنه الإنطباع الأول. إنه التعبير الأول المقرون بوابلٍ من الشتائم وعبارات القرف التي تتكرر في كلِ مرة يجد فيها المواطن اللبناني، إبن البلد، إبن الجنوب والبقاع والشمال وبيروت والجبل، نفسه أسير أشباح الليل. من الأشرفية الى البترون وتنورين إنتقلنا. أول البارحة، ليلة عيد القديس إسطفان، كان الإختبار الأول لنواطير الليل هناك حيث قبض الحراس، أولاد المنطقة، على سارقَين وفرّ الثالث. فهل نلومهم على أمنٍ ذاتي اختاروه بعدما سُدّت كل الآفاق؟ فلنعرف أكثر قبل أن نحسم الجواب.

«الحراميي متليين الدني»، أول البارحة أتى ثلاثة منهم ليسرقوا منزل طوني رشيد الشاعر في بلاد البترون. قبض النواطير على اثنين منهم وفرّ الثالث. في البداية إعتقدوا أن الفعلة سوريون لكن تبيّن لاحقا ان الشخصين كانا كلاً من أحمد فؤاد الأسعد ومحمد فاروق الرفاعي من بلدة العبدة – لن نكتفي بوضع الإسمين بالحرفين الأولين- هبّ الناس. قلق. خوف. ماذا يحصل؟ إتصل النواطير- الحراس بالقوى الأمنية التي أتت وتسلمتهما. إنتهت السرقة على «فوفاش». الفيديوهات أظهرت وجوه السارقَين. وكثير كثير من السارقين الآخرين، أو من يحكّون ادمغتهم كثيراً وقد يسرقون، قد يرتدعون. نقول قد.

في البترون وتنورين «هرج ومرج» وعصف دماغي بحثاً عن حلول تزيل الهموم النازلة على الأهالي مثل الشتي. السرقات يومية. بعضها يتمّ التبليغ عنه وبعضها لا. فالتبليغ يستتبع «روح وتع وتع وروح والعشا خبّيزة» كما يقول المثل. وهذا يعني أن الأرقام التي في حَوزة القوى الأمنية عن عدد السرقات غير صحيحة. فالناس ملّوا من كل شيء، من كل كل شيء، وأصبحوا لا يثقون إلا بأنفسهم.

على راس السطح

ماذا حصل أول البارحة؟ سألنا إبن البترون، الناشط جوزيف جرجس يونس الذي يتابع مع فاعليات المنطقة المسار الحزين في البلاد وقصص السارقين التي لا تنتهي وسبل الخروج من القعر. يقول»أنا حالياً في شاتين، عند المختار غسان غوش، مع فاعليات وجميعنا نتكلم عما حصل في منطقة بلعا. الموقوفان أصبحا في مخفر طورزيا والثالث هرب. ونحن قررنا أن نجمع نواطير وحراساً من مناطق عديدة ونربطهم بشبكة إلكترونية – الواتساب على الأرجح – مع مختلف الأجهزة الأمنية ومخافر طورزيا والعاقورة وتنورين. ننوي ضمّ 250عنصراً ينشطون في كل قضاء البترون، في 69 بلدة وضيعة. نحن بحاجة الى تفعيل الأمن الذاتي ونقول ذلك على رأس السطح».

كلمة الأمن الذاتي تزعج الكثيرين. يعتبرونها خروجاً على مفهوم الدولة. في حين، أن أهل البلد الذين يؤمنون بالدولة، وبالبقاء في الدولة، يبحثون عن حلول تنجيهم من الحاضر ومن الآتي الذي قد يكون أعظم. نجول في قضاء البترون. بلدة راشانا بدأت في «الأمن الذاتي». سنصفق لها. وناسها يدفعون شهريا 30 دولاراً- عن كل بيت- لدفع مخصصات الحرس/النواطير لقاء سهرهم على إرساء الأمن. ماذا عن استنساخ ما بدأته راشانا؟ يجيب يونس «شبكتنا ستضم كل نواطير وحراس البيوت، على كامل مساحات المنطقة. المخاتير يتعاونون. خدام الرعايا يتعاونون. هؤلاء أصبحوا ضرورة في زمن بتنا نتصل فيه بالأجهزة الأمنية فلا نجد، في غالبية الأوقات، عناصر وإذا وجدوا لا مركبات وإذا وجدت لا بنزين أو تكون معطلة. نحن قبضنا أول البارحة على سارقين وانتظرنا نحو ساعتين لتتسلمهما القوى الأمنية. يضيف جوزيف يونس «نشتغل منذ أيام مع كل البلديات في قضاء البترون لتأسيس شبكة، سموها إذا شئتم شبكة أمن ذاتي، وستكون بالتنسيق التام مع الأجهزة الأمنية. مجرد وجود النواطير سيجعل من يفكر بالسرقة يفكر ألف مرة. هذا سيكون دورهم خصوصا بعد إزدياد أنواع السرقات التي أصبحت بلا حدود».

سرقة كل شيء

نصعد قليلا نحو الجرد. ميشال عيد حرب هو من جرد تنورين وهو يحاول أن يوفّر في الليالي الباردة المثلجة حالياً – مع مجموعة من النواطير- الأمان لمن بقي من السكان في الجرد. يقول: «يقع الجرد جغرافياً على تقاطعات جغرافية عدة، وكل المزارع العالية تخلو في الشتاء من السكان، ونحن نعاني- مثل كل اهالي البلد- من أشباح الليل الذين يسرقون، أو يحاولون أن يسرقوا، لذلك قررنا أن نتصدى بأنفسنا للسرقات. السارقون لا يوفّرون شيئاً. بدأوا بالزعتر ويمضون اليوم بسرقة الترانسات والبيوت وكل ما يصادفونه أمامهم. نحن حالة مدنية. نحن نسهر في العراء وإذا لفتتنا أي حركة مشبوهة نتصل بالقوى الأمنية. نحن نصرّ على التعاون مع الجميع من أجل حماية الأرض والعرض والبيوت. وسلاحنا إيماننا بالبقاء هنا. ووجودنا في غاية الأهمية ولا أحد يدعمنا. ليس لنا إلا غيرتنا على قرانا».

قبل ان نضع نقطة ونتابع. خبرٌ يمرّ: أكثر من منزل سُرق عن طريق الكسر والخلع في وادي الجرد في تنورين. لكن، ما يُطمئن، أن النواطير قرروا أن يكونوا، من الآن وصاعداً، في المرصاد.

نحاس للبيع

نعود الى جوزيف يونس لنسأله: ما هو سلاحكم؟ يجيب «لا سلاح لدينا. نحن نواطير. وإذا إتهمنا أحد بأننا نعمل الى أمن ذاتي- بمفهوم الخبثاء- فنجيبه: إقعد مكاننا واحم بيوتنا». يغيب السلاح عن نواطير البترون وتنورين وتحضر العيون «عشرة عشرة». وإذا شكوا بأحد سيقفلون الشارع بسيارة – «سيعورضون»- كل «كذا كيلومتر». وسيمنحون بذلك القوى الأمنية الوقت للوصول. مشروع الأمن الذاتي هذا ميداني، سلمي، لحماية القرى والمدن. والتنسيق سيجري مع المحافظ والبلديات. سنجعل «الحرامي» يُفكّر كثيراً قبل أن يقرر القدوم الى مناطقنا». يقول يونس.

إنها الحاجة أم الإختراع. النواطير باتوا حاجة، خصوصاً إذا كانوا شباباً مثل الورود، يحلمون بمستقبل في بلد ولدوا فيه وعقدوا العزم على حماية أهل وجيران وأقارب. الناشطون لا يهدأون. وبعضهم يحسب أرباح السارقين من الترانسات بعدما سمعوا أن أحدهم سرق من بلدة أجدبرا ليلاً كابلات ترانس على مبنى الريجي على أوتوستراد البترون تنورين: كم يربح اللصوص من بيع كابل نحاسي قصير؟ هناك من أعطاهم الجواب: كيلو النحاس يباع بمبلغ 37 دولاراً. يعني إذا استلزمت السرقة مجيء السارق أكثر من مرة، بسيارته، النتيجة تكون لا رابحاً ولا خاسراً. لكن طبعاً، وكما تعلمون، السارق لا يكتفي بكابل نحاسي قصير.

سؤال آخر نطرحه نحن: كابلات النحاس التي تُسرق أين تباع؟ وكيف تعبر المركبة المحملة بالمسروقات من منطقة الى أخرى بلا إذن ولا دستور؟ قبل ايام سُرقت خطوط التوتر العالي بين عورا وقندولا- لا بلدية في المنطقتين- كابلات النحاس في حيّ القلعة في سمار جبيل سرقت ايضاً، وكابلات النحاس سرقت من «ترانس» حي الميدان في كفيفان- حيث لا بلدية ايضاً. اصبح معروفاً عيون اللصوص على ماذا؟ ومعلوماً اين يفترض ان تباع المسروقات. فهل صعب مراقبة البائع والشاري؟ نلوم الأجهزة الأمنية لكن نعود لنقول: الله يساعدهم؟ نلوم البلديات لكن نعود ونعرف ان من أصل 69 ضيعة في بلاد البترون هناك 27 فقط لديها بلديات. الحلّ في بلاد البترون، كما في سواها، بات يكمن بالإستعانة بالنواطير والحراس. النواطير اللبنانيون طبعاً لا السوريون. أهل البلد هم نواطير المرحلة. فهل هذا يخلّ بالأمن؟ هناك من يحلو لهم «كترة الكلام» والقفز عن الوضع الأكثر صعوبة في تاريخ لبنان. هذا ولو سهلت تسميته الأمن الذاتي غير أنه سبيل لبقاء – من يتمسك بالبقاء – في البلد.

تتكرر في بلاد البترون مراراً تسمية: نواطير. إنها مشتقة من ناطور. وتشتق من الكلمة كلمات: نطر، ناطرون… وأيضا حارس وحراس وساهرون على الرعاية… أصل الكلمة إنكليزية: night tour أي التجوال ليلا. وفي القانون اللبناني، نظام نواطير الحقول. الذي ينص في مادته الأولى: «كل محل جامع خارج المدن في دولة لبنان الكبير، سواء أكان فيه مجلس بلدي أو لم يكن، يجب أن يكون له ناطور، ويجوز أن يكون أكثر من ناطور. ويحقّ للنواطير أن يحملوا مسدساً بوليسياً تقدمه لهم السلطات المحلية».

نواطير الليل في بلاد البترون نجحوا في الإختبار الأول. سارقان أصبحا في قبضة العدالة. لكن، ثمة سؤال يلوح عند الفاعليات هناك: ماذا لو أصاب أحد الشباب ضرر أثناء عرقلة سبيل سارق؟ من يتحمل المسؤولية؟ الأهالي أقدموا والدولة تلكأت والأمر يحتاج الى تنظيم. نواطير الليل باتوا حاجة ملحة وربما الحلّ الواقعي حاليا يكون من خلال الإستعانة بهؤلاء، على أن يتم دمج من يريد منهم في شركات أمن خاصة محلية منظمة. الأفكار كثيرة والسرقات كثيرة والأمر الذي يجمع عليه كل اهالي بلاد البترون وتنورين هو عدم جواز ان تبقى السرقات الليلية الخبر اليومي الطازج.

Exit mobile version