كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن،
في كل مرّة يطرأ إنخفاض مفاجئ على سعر الدولار في السوق الموازية، تلفّ الشائعات ساحة الصرّافين في شتورا، فيبدأ إنتشار فيديوات وأخبار تتحدّث عن انهيارات كبيرة في صفوف هؤلاء، وعن صراخ وشتائم ومشاحنات، سرعان ما تُظهر الزيارة الميدانية للمكان، عدم صحّتها.
مساء الثلاثاء الماضي حصل الأمر نفسه. صوّر أحدهم فيديو يظهر أحد العاملين في محلات الصرافة في ساحة شتورا وهو في حالة غضب شديد. هذا الفيديو سرعان ما تبادلته مواقع إلكترونية وصفحات إخبارية متحدّثة عن انهيارات في صفوف الصرّافين جرّاء الإنخفاض المفاجئ لسعر الدولار، ليتبيّن عند استطلاع الأمر ميدانياً أنه لا يتخطّى إشكالاً فردياً وقع بين عاملَين في مكان واحد، وتمّ تطويقه سريعاً.
ولكن سرعة انتشار هذه الأخبار تظهر رغبة لدى البعض في رؤية إنهيارات فعلية بصفوف الصرّافين، وتؤكّد ذلك التعليقات التي ترافق نشر الفيديوات عبر المواقع، ويحمّل معظمها الصرّافين مسؤولية إرتفاع سعر الدولار والتلاعب به، ليفشّوا خلقهم بهذه الحلقة، رغم إدراكهم بأنّها ترتبط بأزمة الليرة وانهيارها بالتأكيد، ولكنّها ليست هي أصلها.
في المقابل، يظهر مزيد من التمعّن في طريقة عمل الصرّافين، وفي استراتيجياتهم المتّبعة للحفاظ على رساميلهم، صعوبة تضرّر الصرّافين مباشرة جرّاء عدم استقرار سعر صرف الدولار والتلاعب به، صعوداً أو نزولاً، خصوصاً بعد التجارب التي مرّ بها الصرّافون خلال ثلاث سنوات من عدم الإستقرار المالي في السوق، وسمحت لهم بتكوين خبرة جماعية في تجنّب مخاطر الخسارة، أضافها كل صرّاف الى ما اكتسبه من خبرة شخصية. وإليكم تفاصيل هذه الخبرات:
يعرف كلّ صرّاف مسبقاً حجم السوق الذي يتعاطى معه يومياً، وعليه، لا يشتري هؤلاء إلا الكمّيات التي ضمنوا تصريفها. وانطلاقاً من هنا راجت أخيراً بين الصرّافين عبارة «ثبّت لي السعر».
هذه العبارة تعني أن الصرّاف الذي اشترى إفتراضياً من زميله الأصغر منه كميّة الدولارات بسعر محدّد، يكون ملزماً به، سواء انخفض سعر الصرف أم ارتفع. في المقابل فإنّ من اشترى هذه الدولارات يكون أيضاً قد حدّد مسبقاً سعر بيعه للجهة التي إشتراها لمصلحتها، والتي غالباً ما تكون إمّا مؤسسة صناعية أو تجارية مستوردة، أو إحدى الشركات المستوردة للنفط، أو حتى صاحب محطة بنزين، وأحياناً أيضاً يكون الشاري مصرف لبنان. ما يجعل اللّعب بالدولار هنا مضموناً، سواء أكان الصرّاف صغيراً أم كبيراً. فيما الخاسر في حال طرأ أي إنخفاض كبير على سعر الصرف، هو الجهة التي إشترت الدولار بالسعر الأعلى، وبالتالي المستهلك الذي سيشتري السلعة بسعر الدولار الأعلى.
وعليه في الإنخفاضات المفاجئة التي تطرأ على سعر الدولار، لا يتأثر سوى الأفراد أو صغار التجّار، ونادراً كبارهم الذين يقامرون بالدولارات معوّلين على ارتفاع سعره بالليرة اللبنانية لتحقيق أرباح إضافية في مشترياتهم. أما بالنسبة إلى الصرّافين فالمعادلة بالنسبة إليهم هي WIN – WIN، أو «ربح- ربح» على طول السكّة. لأنّهم في الأساس لا يخزّنون الدولارات التي يشترونها، بل يسعون لتصريفها بسرعة، وبالتالي لا يخسر من بينهم سوى من يطمع بمراكمة الأرباح.
لا شك أنّ التعاميم المتكرّرة التي أصدرها مصرف لبنان ساعدت الصرّافين على تكوين خبرة جيّدة لتجنّب الخسارات، وذلك بعدما استوعب القسم الأكبر منهم محاولة مصرف لبنان إمتصاص الليرة اللبنانية من سوق التداول. ولهذا يحرص الصرّافون على المحافظة على رساميلهم بالليرة اللبنانية وليس بالدولار. وبذلك تكون هذه الليرة متوفرة عند الإنخفاض المفاجئ لسعر الدولار، ليشتروه على سعره المنخفض، ثمّ يعودوا ليبيعوه بسعره الأعلى.
وهكذا تتكرّر العمليات بوتيرتها اليومية، ويبقى لعب الصرّافين بأموال الناس التي يكسبون أرباحها من خلال عمليات البيع والشراء، فيما هم حريصون على عدم المسّ برساميلهم، علماً أنّ ثمّة عاملاً آخر يساهم في التخفيض من مخاطر الخسارات التي قد يتعرّض لها الصرّافون في حال التبدّل السريع بسعر الدولار الأسود. ويتمثّل في شبكة التعاون التي أنشأها الصرّافون في ما بينهم، عبر مجموعات «واتساب» أو غيرها، وتسمح بالتنسيق بين المنتمين إليها لمعرفة حركة السوق، مبيعاً وشراء، وبالتالي تسمح بتبادلهم النصائح عبرها، وتعاونهم لتلبية حاجات السوق وإتمام عملياتها بالسرعة المطلوبة، ولكن دائماً مع ترك هامش تحرّك حرّ لكل صرّاف، يؤمن له أرباحاً إضافية.
المفاجأة بالنسبة للصرّافين خلال الإنخفاض المفاجئ الأخير للدولار يوم الثلاثاء، كانت في ما لمسه هؤلاء من خبرة اكتسبها الأفراد وأصحاب التعاملات الصغيرة، الذين ما عاد يخيفهم الإنخفاض المفاجئ والسريع للدولار، ولا حتى يغريهم إرتفاعه السريع. ومن هنا يقول بعض الصرّافين في شتورا إنّ الإنخفاض الذي ترافق مع تعميم مصرف لبنان الأخير، لم تكن له إنعكاسات قوية على السوق، وقد لاحظوا للمرّة الأولى أنّ الناس بدلاً من أن يسبقوا تراجع الدولار بالتهافت على بيعه، حاولوا أن يشتروه بسعره المنخفض من الصرّافين، ولكن هؤلاء طبعاً لم يبيعوه لهم. فخبرتهم التي كوّنوها أيضاً في السنوات الماضية، تتطلّب إنتظار إنتهاء إرتدادات التعميم الذي أدّى إلى هذا الإنخفاض، والذي تجزم الخبرة أيضاً أنّه سيتبعه إرتفاع آخر.