قال رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي من طرابلس اليوم” صحيح أنني أتعاطى بإيجابية وانفتاح مع التحديات مهما كان حجمُها، وأعطي النقاش والحوار مداه الأقصى، لكنَّ الصحيح أيضًا أنّ التحاور يقفُ عند حدود قناعاتٍ وطنيةٍ وشخصية لا أَحيد عنها أبدًا، وأبرزُها إستقلالية القضاء ومن خلاله حمايةُ الدستور والمؤسسات، وصونٍ انتماءِ لبنانَ العربي والحفاظِ على علاقاتِ الأخُوَّةِ مع الأشقّاء العرب، وفي مقدَّمِهم المملكةُ العربية السعودية”.
وفي كلمة القاها خلال رعايته احتفال مئوية نقابة المحامين في طرابلس قال” إن مفهومَ الدولة يقومُ على قاعدة أن يتخلّى الفردُ أو المجموعةُ طوعًا عن بعضِ ما هو حقٌّ له أو لها في الأصل، من أجلِ المصلحةِ العامة التي تمثل بالضرورة وفي نهاية المطافِ مصلحةً للجميع من دون استثناء. أما المنطقُ المبنيُّ على المناداةِ الدائمة بالحقوق الخاصة، للفَرْدِ أو للجماعة، فهو منطقٌ غالبًا ما يؤدّي إلى توتير الأجواء وتعطيل المؤسسات، ولا يأتلفُ قطعًا مع مفهوم الدولة التي تتجسَّدُ فيها، كشخصيّةٍ اعتباريّةٍ واحدةٍ موحَّدة، حقوقُ جميع أبنائها”.
اضاف”من هنا دعوتُنا، أن تكون المئوية الثانية مئويةَ النظامِ العام، والانتظامِ الكامل في نهجٍ سياسيٍّ واضح المعالم والمبادئ، يلتزم قواعدَ الديمقراطية الصحيحة وأُسُسَ بناءِ الدولة العصريّة ذات السلطة الواحدة التي لا ازدواجيةَ فيها. دولةٌ تجعلُ على رأسِ اهتمامَاتِها حمايةَ سيادةِ الوطن وضمانَ سلامةِ أرضِه وشعبِه ومؤسساته، واحترامَ القواعدِ والاستحقاقاتِ الدستورية، وصَوْنَ مصالحِ المواطنينَ المقيمين والمغتربين، والمحافظةَ على انتماءِ لبنانَ العربي، وبناءَ أفضلِ العلاقاتِ مع الأشقاءِ في المنطقة والأصدقاء في العالم. دولةٌ تكرِّسُ استقلالَ القضاء وتعملُ على توفير حاجات المرفق القضائي الماديةِ والمعنوية، لكي يتولّى إحقاق العدالة باسم الشعبِ اللبناني، استنادًا إلى ضمائر القضاة ونصوص القانون فقط، ومن دونِ تدخُّلِ أحدٍ أيًّا كانت صفتُه وموقعه”.
نص الكلمة
أيها الحفل الكريم
إنَّهُ زَمَنُ المئويّاتِ اللبنانية. فمنذ عامين احتفلَتْ نقابةُ المحامين في بيروت بمرور قرنٍ على تأسيسِها، والعامَ الماضي كانت مئويةُ لبنان الكبير، واليوم تقيمُ نقابةُ المحامين في طرابلس الذكرى نفسَها وتحتفِل بمرورِ مئةِ عامٍ على إنشائها. إنه زمنٌ يشهدُ لعراقةِ هذا الوطن وهاتَيْنِ المؤسستَيْنِ الحقوقيتَيْن اللتَيْن واكبتا قيامَ لبنان، وتجدَّدَتَا على مرِّ السنين وتطوَّرَتْ قوانينُهما وأنظمتُهما، وظلَّتا شاهدتَيْن أمينتَيْنِ على تحقيق رسالة العدالة.
وليس من بابِ المصادفة أن تتميَّزَ طرابلس عن سائرِ مراكزِ المحافظاتِ التاريخية بإنشاءِ نقاباتٍ للمهنِ الحرة فيها، على قَدَمِ المساواة مع العاصمةِ بيروت التي تضمُّ نقاباتُها كاملَ لبنانَ ما عدا الشِّمال. لم يكن ذلك لأنها العاصمةُ الثانية، بل لأنَّها في حقيقتها فيحاءُ الهُوِيَّةِ قبلَ أن تكونَ فيحاءَ البساتين، ولأنَّها المدينةُ الجامعةُ لكلِّ أبناءِ الوطن، على اختلافِ تطلعاتِهم ومشاربِهم، ولأنَّ قواها الحيَّةَ كانَتْ ولا تَزَالُ تعبيرًا صادِقًا عن معنى الميثاق الوطني والعيشِ المشترَكِ الذي هو مغزى وجود لبنان.
أعوامٌ مئةٌ مرَّت لم يقتصرْ خلالَها دورُ نقابةِ المحامين في طرابلس، على تنظيم المهنة وإدارةِ شؤون المحامين فقط، بل كان لها حضورٌ فاعلٌ في الحياةِ الوطنية اللبنانية من خلالِ حِرْصِها الدائم على الدعوةِ إلى قيام الدولة العادلة التي تلتزمُ سلطاتُها بأحكام الدستور ويتساوى فيها المواطنون أمام القانون، ومن خلالِ دِفاعِها المتواصِلِ عن استقلالِ السلطة القضائية، ومن خلال ما قدّمَت من شخصياتٍ سياسية وقضائية وإدارية من المحامين الذين أسْدَوْا للبنانَ خدماتٍ كبيرةً أثناءَ نهوضِهم بأعباء الشأن العام، ومن خلال حَمْلِها للقضايا الوطنية والقومية والإنسانية العادلة إلى المحافل العربية والدولية كاتحادِ المحامين العرب واتحادِ المحامين الدوليين، واتحادِ نقابات المحامين في دُوَل ِالبحر الأبيض المتوسط.
وما يوازي هذه الأدوارَ أهميَّةً، أو ربَّما يفوقُها، تلكَ الأعرافُ الجامعةُ المعبِّرَةُ عن الوحدة الوطنية التي اخْتُصَّتْ بها نقابةُ المحامين في طرابلس منذ نشأتِها، فعاشتْها والتَزَمَتْ بتطبيقِها في كلِ الاستحقاقاتِ النقابية من دون أيِّ خلل، في وقائعَ كثيرةٍ لا تزال محفورة في ذاكرة المدينة والشّمال، منها مثلًا أن محامين فائزين في دَوْرَةِ انتخابٍ ما، كانوا يتنازلون عن فوزِهم ليحلَّ محلَّهم العضوُ الرديف، حفاظًا على قيمِ النقابة وتقاليدِها ومراعاةً لمقتضياتِ الوحدةِ الوطنية.
والحقيقةُ أن مفهومَ الدولة يقومُ على هذه القاعدةِ عَيْنِها: أن يتخلّى الفردُ أو المجموعةُ طوعًا عن بعضِ ما هو حقٌّ له أو لها في الأصل، من أجلِ المصلحةِ العامة التي تمثل بالضرورة وفي نهاية المطافِ مصلحةً للجميع من دون استثناء. أما المنطقُ المبنيُّ على المناداةِ الدائمة بالحقوق الخاصة، للفَرْدِ أو للجماعة، فهو منطقٌ غالبًا ما يؤدّي إلى توتير الأجواء وتعطيل المؤسسات، ولا يأتلفُ قطعًا مع مفهوم الدولة التي تتجسَّدُ فيها، كشخصيّةٍ اعتباريّةٍ واحدةٍ موحَّدة، حقوقُ جميع أبنائها.
في هذا الاطارِ أقول: صحيح أنني أتعاطى بإيجابية وانفتاح مع التحديات مهما كان حجمُها، وأعطي النقاش والحوار مداه الأقصى، لكنَّ الصحيح أيضًا أنّ التحاور يقفُ عند حدود قناعاتٍ وطنيةٍ وشخصية لا أَحيد عنها أبدًا، وأبرزُها إستقلالية القضاء ومن خلاله حمايةُ الدستور والمؤسسات، وصونٍ انتماءِ لبنانَ العربي والحفاظِ على علاقاتِ الأخُوَّةِ مع الأشقّاء العرب، وفي مقدَّمِهم المملكةُ العربية السعودية.ويحضرني في هذا الاطار قول الشاعر نزار قباني في قصيدةٍ توجَه بها الى الاخوةِ العرب”إنَّ كَوناً لَيسَ لُبنَانُ فِيهِ سَوفَ يَبقَى عَدَماً أَو مُستَحِيلاَ.كُلُّ مَا يَطلُبُهُ لُبنَانُ مِنكُم أَن تُحِبُوهُ تُحِبُّوهُ قَلِيلاَ”.
وفي كل حال، ينبغي أن نتذكَّرَ أن المئويةَ اللبنانيةَ الأولى التي بَدَأَتْ فعلًا مع اتفاقية سايكس بيكو، كانت مئويةَ الأزماتِ الداخليةِ والإقليمية المتتابعة، التي فَصَلَتْ بينها مراحل زمنيةٌ من السلامِ غير المستقر. مئويةٌ أثبتَتْ حقيقتَيْن: الأولى أنَّ لبنانَ حاجةٌ لأبنائه وللعرب وللعالم، رسالةَ عيشٍ وفضاءَ حريةٍ وأرضَ حوارٍ بين الديانات والحضارات. والثانية، أن اللبنانيين أخْفَقوا في تجسيد هذه الشعارات والقيم، بتحويلِها إلى نظام حكمٍ رشيد، فراحوا يُمْعِنون في الصيغة الفريدة تجريحًا، فكانتِ الحروب والمناكفاتُ والصراعاتُ السمةَ البارزة التي طبعتِ القرنَ المنصرم على امتدادِ الخريطة اللبنانية، وتحتَ عناوينَ شتّى أثبتَتْ الحوادثُ عُقْمَها. من هنا دعوتُنا، أن تكون المئوية الثانية مئويةَ النظامِ العام، والانتظامِ الكامل في نهجٍ سياسيٍّ واضح المعالم والمبادئ، يلتزم قواعدَ الديمقراطية الصحيحة وأُسُسَ بناءِ الدولة العصريّة ذات السلطة الواحدة التي لا ازدواجيةَ فيها. دولةٌ تجعلُ على رأسِ اهتمامَاتِها حمايةَ سيادةِ الوطن وضمانَ سلامةِ أرضِه وشعبِه ومؤسساته، واحترامَ القواعدِ والاستحقاقاتِ الدستورية، وصَوْنَ مصالحِ المواطنينَ المقيمين والمغتربين، والمحافظةَ على انتماءِ لبنانَ العربي، وبناءَ أفضلِ العلاقاتِ مع الأشقاءِ في المنطقة والأصدقاء في العالم. دولةٌ تكرِّسُ استقلالَ القضاء وتعملُ على توفير حاجات المرفق القضائي الماديةِ والمعنوية، لكي يتولّى إحقاق العدالة باسم الشعبِ اللبناني، استنادًا إلى ضمائر القضاة ونصوص القانون فقط، ومن دونِ تدخُّلِ أحدٍ أيًّا كانت صفتُه وموقعه.
أيها الحفل الكريم
تبقى طرابلس مدينتي الحبيبة، مدينةُ العلم والعلماء، وواسطةُ العِقْدِ في شِمالِ لبنان، الفيحاءُ التي قدَّمَت كلَّ شيءٍ من أجلِ الوطنِ والعروبة، والتي تستحقُّ في المقابلِ الكثيرَ منّا، تنميةً وأمنًا وصحةً واقتصادًا وبنًى تحتيةً وفُرَصَ عمل. أعرفُ وتعرفون أنها عانَت الإهمالَ المتمادي طوالَ المئة الأولى من عمرِ لبنان (التي سمَّيْتُها مئةَ الأزمات)، وذلك على الرغمِ من الجهودِ الخيّرة والإراداتِ الطيِّبة التي لم تُؤْتِ ثمارَها على وجهٍ مستدام، بسبب طبيعة النظامِ اللبناني الذي يُنتِجُ الأزماتِ دائمًا ويفرضُ التسوياتِ دائمًا، ما حالَ دون إعطاء المدينةِ وغيرِها من المناطق اللبنانية الحقوقَ الطبيعية التي لها، فصارتْ ساحة حروب مدمّرة. لذلك، ينبغي الإعلان من على هذا المنبر الحقوقي سعينا الدائمَ لانصافِ طرابلس وإعطائها حقَّها، كمدخلٍ لإنصاف سائر المدن والأقضية والمحافظات، وأن يكونَ هذا الإعلان شعارَ المئويةِ الثانية لجميعِ العهودِ والمجالسِ والحكومات والأحزاب، بما فيها الحكومةُ الحالية.
وفي الختام أباركُ لنقابةِ المحامين في طرابلس ذكرى مئويَّتِها الأولى، وأسجل للنقيب محمد المراد ومجلس النقابة والنقباء السابقين جهودَهم الكبيرة من أجل إنجاح هذا الاحتفال، وأرجو للنقابة استمرار عطائها في خدمة رسالة المحاماة، دفاعًا عن حقوقِ الناس وكراماتِهم، وعن الثوابت الوطنية والقيم الإنسانية العُلْيا.
عشتم .عاشت نقابة المحامين في طرابلس. عاشت طرابلس وعاش لبنان.