كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن،
صار الأمر واقعاً، وبات لربطة الخبز أيضاً بورصتها التي تخضع لتقلّبات يومية. بل إنّ سعرها الرسمي لم يعد الوحيد، وإنّما سعر الرغيف في المخبز، هو غيره في السوق. وتفاوتهما تبرّره كلفة النقل الخاضعة لتقلبات أسعار المحروقات، فضلاً عمّا يعتبره موزّعو الخبز للمتاجر «حقّاً طبيعياً في تحقيق أرباح توازي أقلّه حجم التضخّم الحاصل في أسعار كافة مستلزمات الحياة».
وهكذا إذاً بينما حدّدت وزارة الإقتصاد التسعيرة الرسمية الأخيرة لربطة الخبز وزن 805 غرامات بـ35 الف ليرة، جاء تداولها في المتاجر وفقاً لجولة ميدانية في منطقة زحلة وقضائها بسعر تفاوت بين 40 ألف ليرة كحدّ أدنى و45 الف ليرة كحدّ أقصى. والسعر يتضمّن أرباح ناقلي الخبز من الأفران إلى السوق، وأرباح المتاجر. في وقت تبيّن أنّ الموزعين زادوا سعر الربطة كلّ وفقاً لأهوائه، بعدما تسللت الفوضى إلى مهنتهم، وإنسحب منها بعضهم، ليحلّ مكانهم آخرون، وإن بشكل غير منظّم.
الياس هو واحد من الذين امتهنوا توزيع أنواع الخبز والمعجّنات الأخرى قبل سنة 2019. اذ نجح في مأسسة مهنته وشغّل لمصلحتها أكثر من «فان»، ووظّف سائقين كان يحرص على أن يؤمنوا وصول الخبز إلى الأحياء في وقت واحد صباح كلّ يوم. إلا أنّه منذ لاحت أزمة الطحين الأولى في لبنان، يقول إنّ هذه المهنة لم تعد كسابق عهدها، خصوصاً أنّ الأفران لم تعد توفر للموزّع كميات خبز كافية لتسديد أجرة النقل والموزّعين، هذا في وقت تسلّل عمال أجانب إلى المهنة وباتوا يستخدمون وسائلهم الأقلّ كلفة في تأمين توزيع الخبز، ما تسبّب بمضاربات عديدة في السوق.
ويشرح الياس أنّ موزّع الخبز يعمل بالأساس على قاعدة «أعطنا خبزنا كفاف يومنا» وبالتالي فإنّ أي عطل يطرأ على وسيلة نقله تكبّده أرباح أسبوع عمل أحياناً، وهي أرباح محدودة بالأساس، فكيف الحال إذا إبتُلعت نتيجة لإرتفاع سعر صفيحة البنزين وعدم إستقراره؟
لم يعد الياس يعمل في هذه الخدمة، مثله مثل كثيرين، يقول أصحاب المتاجر إنهم إفتقدوا إلى وجوههم. وبغيابهم خسروا ميزة توفّر الخبز في المتاجر بانتظام. ومع أنّ معظمهم وجد وسائل خاصة لعدم قطع الخبز نهائياً من متاجرهم، إلا أنّ بعضهم لم ينجح في الحفاظ على ميزتي التنوّع والإنتظام بوصول كمّياته. ومع أنّ الأزمات التي تسبّبت بأزمات رغيف أحياناً، جعلت الناس يشترون المتوفر أياً كان نوعه أو تاريخ خبزه، فإنّ أصحاب المتاجر يواجهون أحياناً كثيرة كما يقولون، صعوبة بتصريف الخبز إذا كان بائتاً، وهذ ما يكبّدهم برأيهم خسائر عدم إنتظام المهنة كالسابق.
حصل ذلك في وقت تضاعف الأزمة الإقتصادية التي يعيشها اللبنانيون من رغبة شراء الخبز من دكاكين الأحياء. ولا يرتبط ذلك فقط بنزعة الناس إلى التزوّد به من أقرب موقع، بدلاً من إثقال سعر الربطة بكلفة الإنتقال إلى المخابز. وإنّما بسبب المشاكل المتكرّرة التي حصلت على أبواب بعض هذه المخابز، والمزاحمات التي يواجهها بعض من يقصدونها حتى اليوم، من قبل النازحين السوريين في منطقة البقاع خصوصاً، علماً أنّ تواجد النازحين السوريين في بعض الأحياء، شكّل بدوره سبباً إضافياً من أسباب التزاحم على الخبز حتّى في الدكاكين.
إزاء هذا الواقع، وجد البعض في قرى يقطنها عدد كبير من النازحين، فرصة عمل جديدة لهم. وبمقابل خسارة البعض لمهنة توزيع الخبز، إقتحم آخرون هذا العالم في تجمّعات النازحين، مستخدمين وسائل النقل الأقلّ كلفة، من الـ»توك توك»، إلى الدرّاجات النارية وحتى الهوائية أحياناً. إلا أنّه ليس كلّ هؤلاء تمكّنوا من نسج علاقات مع أصحاب المخابز والعاملين فيها لتأمين كمّيات الخبز التي يحتاجونها يومياً، ولذلك عمدوا إلى إبتداع أساليب لتجميع كمّيات الخبز من مصادرها، عبر إقتياد أفراد عائلاتهم معهم، ودفع كلّ منهم لشراء كل ما إستطاعه من كمّيات، ومن أكثر من مصدر.
في المقابل، إرتفعت شكوى عدد من الموزّعين اللبنانيين من تسبّب زيادة الطلب على الخبز في الأفران، بتراجع حصصهم من الكمّيات التي كانوا يتولّون توزيعها سابقاً، وهو ما يقولون إنّه تسبّب بنوع من الخلل في ميزانياتهم، بحيث لم تعد هذه الخدمة تجارة مربحة بالنسبة لهم، إلا إذا لجأ البعض إلى مضاعفة أرباحه. والطمع بمضاعفة الأرباح شكّل بحسب أحد اصحاب المتاجر سبباً إضافياً لوقف التعامل مع عدد من وسطاء تأمين الخبز أحياناً، خصوصاً أنّ أرباحهم هي على حساب ربح التاجر الذي لا يبيع الخبز عادة كصدقة.
يشرح أحد أصحاب المتاجر في زحلة أنّه تخلّى كلياً عن خدمة موزعي الخبز وبات يؤمن إحتياجات متجره يومياً وبصفر كلفة بينما يكون منتقلاً من منزله إلى عمله يومياً. وبالتالي هو يعتبر أنّه يقدم خدمة للمستهلك بمقابل تخفيض سعر ربطة الخبز في متجره ليصبح أقرب إلى سعرها الرسمي.
إلا أنّ بعض هذه المبادرات الفردية لا تنفي حقيقة تسلل الفوضى اللبنانية العارمة إلى الحلقة الأساسية التي كانت تؤمّن إنسياب الخبز ببساطة من الفرن إلى المستهلك. وما يقلق الناس هو إنّه حتى لو وجدت هذه الفوضى حلولاً ظرفية، فإنّها ليست ضامنة برأيهم لأنظمة الراحة التي إعتادوا عليها لزمن، بحيث بات عليهم العيش في قلق مستمرّ، حتى على رغيف الخبز.