بقلم لوسي بارسخيان،
يحيي مسيحيو لبنان الذين يعتمدون التقويم الغربي عموماً تقليد زيارة سبع كنائس في ليلة «خميس الأسرار» التي تسبق يوم الجمعة العظيمة. ولكنّ لطقوسه الإجتماعية في مدينة زحلة سحراً خاصاً يرتبط بتجديد علاقة التواصل مع تاريخ المدينة وعاداتها، عبر نقل الزحليين جغرافياً في هذه الأمسية، إلى مكان نشأة مدينتهم في زمن غير بعيد، ليبدو وكأن مساحة زحلة قد تقلّصت إلى الحدود التي إنطلقت منها قبل توسّعها.
عشية الجمعة العظيمة إذاً تنبعث الحياة في الناحية المعروفة بالقديمة في زحلة، وفي شرايينها التي تربط أحياءها عبر أدراج وأزقّة، أو «زواميق» كما يسميها الزحليّون، تضع مساراً واحداً لكنائس سبقت نشأة هذه الأحياء وأعطتها أسماءها. فيشكّل «سوق البلاط»، أقدم أسواق زحلة الذي سمّي كذلك نظراً لرصفه بالبلاط منذ سنة 1888، معبراً إلزامياً على هذا المسار، يذكّر بالدور الذي لعبه في الماضي كمركز رئيسي للتجارة والتواصل بين تجار سوريا وبيروت وبغداد وفلسطين، حيث كانوا يتزوّدون منه بالقمح خصوصاً، قبل أن يتحوّل لاحقاً سوقاً للصاغة والخياطين والسكافية والسنكرية والحدادة ومركزاً لتجمّع الخانات والبنوك والأزدخانات، أي الصيدليات قبل أن يفقد هذا السوق دوره إثر توسّع المدينة ونشأة بولفارها.
في وسط هذا السوق أطلقت مجموعة «عدروب زحلة» هذه السنة مبادرة لإعادة تذكير الزوار بتقاليد المدينة وخصوصيتها في إحياء زيارة الكنائس السبع بليلة خميس الأسرار، وأيضاً بإعداد طبق الزنغل في الجمعة العظيمة. حيث تشير دانييل الخياط إلى «أنّنا كمجموعة تعنى بتنشيط حركة السياحة المحلية في مدينة زحلة، إرتأينا تنظيم نشاط في وسط سوق البلاط، الذي أدرجناه من ضمن مسار يعرّف اللبنانيين على زحلة القديمة وقصّة نشأتها وهدفنا إحياء التقاليد المرتبطة بأعيادنا، والتي يتجسّد أحدها بطبق الزنغل. علماً أنّنا من خلال تعريفنا الأجيال على نكهة الزنغل، سنخبرهم أيضاً عن رمزيته التي جعلت السيّدات يحصرن تحضيره بيوم الجمعة العظيمة. كما أننا سنروي لهم قصة زيارة الكنائس في خميس الأسرار وأساس نشأة هذا التقليد، فنسهم بإضافة نكهة جديدة وحيوية على تقاليدنا، بالتعاون مع جوقة عنقود الزحلية التي سترافقنا بأصواتها الملائكية في تأدية الترانيم الخاصة بهذه المناسبة».
وفي محيط سوق البلاط يحصي كهنة زحلة 12 كنيسة على الأقل، علماً أنّ الزحليين يفاخرون عادة بما تضمّه مدينتهم من كنائس، يفوق عددها على مستوى النطاق الجغرافي للمدينة، الخمسين. ولكنك لن تلتقي بمعظمهم في خميس الأسرار إلا في «زحلة القديمة»، حيث يتنقّل المصلون بين كنائسها سيراً على الأقدام، أفراداً وجماعات.
لا فرق هنا بين كنيسة وأخرى. ومع أنّ الطائفة الأرثوذكسية لا تشارك التقليد مع الطوائف المسيحية الغربية، ستجد أبواب كنيسة سيدة الزلزلة الأرثوذكسية مفتوحة لإستقبال الزوار في هذه الليلة، كمحطة رئيسية بمسار ديني ينتقل بين كنائس مارجرجس، ومار مخايل، ومار الياس المخلصية، ومار انطونيوس، ومار يوسف الانطونية، ومار تقلا، والقديسة رفقا، ومزار الأب بشارة أبو مراد. بعد أن تكون رحلة الحجّ قد بدأت أو انتهت في كاتدرائية سيدة النجاة وكابيلا السيدة العذراء الملاصقة لها.
هذه الكنائس التي يعبق معظمها أيضاً بأحداث تاريخية، تتجمّع في مساحة لا تتعدى الكيلومتر الواحد، ما يجعل من هذه الناحية من المدينة، مساحة تلاق، يتبادل خلالها المصلّون التحيّات والمعايدات، فتتجدّد «اللحمة الأهلية» التي لطالما ميّزت علاقة أبناء المدينة ببعضهم، وعلاقتهم بالجوار، بصرف النظر عن توجّهاتهم، وخلفياتهم الإجتماعية.
قد يتكاسل بعض الزحليين في حضور قداس خميس الأسرار، ولكنهم لن يفوتوا رحلة الحجّ إلى الكنائس السبع. يفعلون ذلك مع أصدقاء وأقارب، وأحياناً أيضاً من ضمن أخويات وشبيبة رعايا، فيبدو حضور هؤلاء أقل عشوائية من خلال البرامج الخاصة والتراتيل والصلوات المختصرة التي يتلونها، والتي تنقل إلى الحاضرين عدوى التأمل بمراحل جلجلة المسيح السبع، فيكون لها فعالية إيمانية تحضيراً ليوم الجمعة العظيمة.
وفي الرمزية الدينية لزيارة الكنائس السبع يشرح كهنة أنّه تقليد أورشليمي، حيث يحاط المصلوب في هذه الليلة بالمؤمنين، ويُصمد القربان المقدس على مذابح الكنائس ليسجد أمامه المؤمنون ويتباركوا. وقد تجسّدت هذه الرمزية أولاً في كنيسة المهد، حين درج المؤمنون على إقامة سبع صلوات تجسّد المحطات السبع التي مرّ بها المسيح في طريقه إلى الجلجلة، ليبتكر لها الكهنة لاحقاً صلوات خاصة وتأمّلات تتردّد في الكنائس.
غير أنّ في كتيب صلاة للخوري شربل الشمالي يقول إن «لا وثائق تاريخية بالمعنى العلمي الحصري لهذا التقليد، ولكنّه تقليد قديم يعود إلى القرن الرابع بعد اهتداء الملك قسطنطين الإمبراطور الروماني. اذ بدأت هذه الممارسة التقوية في روما المعروفة بتلالها السبع، ودياميسها السبعة. فكان المسيحيون يزورون قبور الشهداء في هذه الأماكن التي شيّدت القديسة هيلانة والدة الملك قسطنطين، كنيسة على كلّ منها، فأصبحت زيارة هذه الكنائس مناسبة لعبادة القربان والسجود. وفيما شجّع الباباوات هذا التقليد منذ القرن السادس ميلادي، فقد أصدر البابا كسيستوس الخامس 1521-1591 براءة، ذكّر فيها بالمعنى الرمزي لهذه الزيارة. وكذلك ذكّر البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون بأهمّية ممارسة هذه العبادة مع إفتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1960».
المصدر:نداء الوطن