كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
يتجدد الحديث عن المعابر غير الشرعية بين لبنان وسوريا عند كل أزمة تعصف بالبلاد. وهي تمتد على مساحة 357 كيلومتراً بين شمال لبنان وبقاعه بالإضافة إلى منطقة شبعا، وقد تحولت في بداية الأزمة السورية بوابة إستجلبت مشاكل الجوار إلى الداخل اللبناني. فبعد ما لعبته هذه المعابر من دور منذ اندلاع الأحداث السورية في انتقال مقاتلي «حزب الله» إلى جانب النظام، وبالتالي عبورها هروباً في الإتجاه المعاكس من قبل معارضي هذا النظام، ساهمت هذه المعابر أيضاً بمزيد من النزف في الإقتصاد اللبناني، عندما تحوّلت خلال الحصار الإقتصادي الذي فرضه «قانون قيصر» على سوريا، إلى عنصر إستنزاف أساسي لودائع اللبنانيين المتسربة مواد مدعومة نحوها. لتنشط تجارة الحدود أيضاً في تأمين مستلزمات سوريا، خصوصاً من الأدوات الكهربائية والبضائع المستوردة.
كان ضبط هذه الحدود أحد الشروط الإصلاحية التي وضعت من قبل الجهات الدولية المانحة لحصول لبنان على الدعم الذي يطالب به لإنقاذ إقتصاده. إلا أن ذلك اصطدم بالواقع المرير، الذي يبدأ بخط سير صهاريج المحروقات التي هربت إلى سوريا، ولا ينتهي مع آخر قطرة من الدعم الذي تحوّل أرباحاً خيالية فاضت في جيوب المهربين ومن وراءهم من نافذين. وذلك قبل أن تنضم إلى المنفعة الإقتصادية لهذا التهريب، «سوق» تهريب الأشخاص والإتجار بالبشر.
وعليه طرحت مسألة هذه المعابر مجدداً، في معرض الجدل الذي أثير حول النازحين السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية بشكل غير شرعي، أو الذين دخلوا لبنان خلسة ويترددون على بلادهم عبر الحدود غير الرسمية للإحتفاظ ببطاقات الدعم التي حصلوا عليها من الجهات الداعمة. اذ ظهرت أيضاً اليد الطولى للمهربين، على تنوع مستويات خطورتهم، بين عصابات تمتهن الإتجار بالبشر، وتزاول شتى أنواع التهريب الأخرى من بيع للسيارات المسروقة وقِطَعها عبر الحدود، الخطف والإبتزاز وتجارة المخدرات، وبين من يسعون فقط للإستثمار بمعرفتهم للمعابر غير الشرعية، بهدف تحقيق المكاسب المالية.
المعابر ابنة بيئتها
في المقابل وعلى رغم الجهود المضنية التي تبذل لضبط هذه الحدود عسكرياً، تبدو هذه المعابر ابنة البيئة التي تتمدد فيها جغرافياً. وعليه لكل منطقة حدودية خصوصيتها التي تؤمن البيئة المؤاتية لتطور نشاطات التهريب أو تراجعها. إلا أنّ الواضح من خلال مراقبة المسار التاريخي لهذا النشاط الحدودي غير الشرعي، أنّ فوائده في معظم الأحيان صبّت لمصلحة سوريا، سواء أكان التهريب من سوريا إلى لبنان أو من لبنان إلى سوريا، أو كان تهريباً للبضائع والممنوعات أم للأشخاص. فيما لا يحصد لبنان سوى الضرر في اقتصاده وأحياناً أيضاً الخطر على سمعته و»كيانه الوجودي».
لا شك أنّ الجهد العسكري المبذول وخصوصاً منذ سنة 2018، بالإضافة إلى تراجع المنافع الإقتصادية للتهريب، وإنتفاء العنصر الأمني الدافع لتدفق الأشخاص، بدّل من موازين الأرض بالنسبة لبعض أنواع التهريب. إلا أنّ استمرار نشاط التهريب يقترن حتى الآن بغياب الروادع الموازية، سواء المجتمعية، أو السياسية والقانونية. بالإضافة إلى ما يؤديه الطرف السوري من دور مسهّل لمهمة المهربين بدلاً من ردعهم. وهذا ما يبقيهم على استعداد لاستعادة نشاطهم دائماً، وبالتالي يصعّب التوصل إلى حلول جذرية لمشكلة التهريب أو تجارة الحدود كما يسميها سكان البلدات الحدودية.
«نداء الوطن» إستطلعت ميدانيا واقع هذه المعابر في ثلاثة إتجاهات بين شمال لبنان وبقاعه، وخرجت بهذا التصور لأدوارها، ونشاط كل منها وحركتها، والعثرات التي تحول دون السيطرة التامة على بعضها، بالإضافة إلى تحديد المسؤوليات التي يتحملها كل من الأطراف المعنيين.
والبداية من معابر وادي خالد في شمال لبنان.
معابر عكار المغرية للتهريب
مغرية تبدو طبيعة الأرض في منطقة وادي خالد – عكار لممارسة شتى نشاطات التجارة غير الشرعية. طرقات سهلة تفصل بين مساحات واسعة من الأراضي اللبنانية والسورية، يحددها فقط مجرى مياه النهر الكبير الجنوبي الذي يتراجع منسوبه خلال فصل الربيع ليجف تماماً في فصل الصيف. فتصبح معظم البلدات المحاذية للحدود على طرفي النهر مشرعة على بعضها، لا يعيق التنقل بينها سوى الإجراءات العسكرية المتخذة على الطرف اللبناني من الحدود، إلى جانب الألغام التي زرعت على الجانب السوري. ليتبيّن أنّ مكافحة التهريب ليست الأولوية من خلال زرع هذه الألغام، بقدر ما هو حصر هذا التهريب بمنافذ تسيطر عليها وتستثمرها الفرقة الرابعة في الجيش السوري أو من هم مخولون بذلك من قبلها، والذين يعرفون بـ»التسويات».
قبل أزمة سوريا بسنوات طويلة، كانت حركة التهريب عبر هذه المعابر نشيطة جداً أيضاً، بحيث يتحدث البعض عن بلدات محاذية لها، نشأ فيها «بور جاف» كان يستقبل كافة البضائع المهربة أو المعدة للتهريب. كانت حركة التهريب حينها «أهلية بمحلية» أو «بيزنس» أغرق السوق ببضائع لا تتكافأ بأسعارها، بذريعة تأمين صمود أهالي قرى الأطراف والحفاظ على لقمة عيشهم.
إلّا أنّ تداعيات التهريب أصبحت أكثر خطورة بعد أحداث سوريا، وخصوصاً في هذا الطرف من الحدود الذي شهد معارك داخلها، دوّت أصداؤها في نواحي عكار، فاحتضنت الهاربين إليها من مختلف قرى وبلدات محافظة حمص.
مخلّفات القساطل
غير أنّ تراجع القتال المسلح لاحقاً، لم يوقف نزف الإقتصاد اللبناني من هذا الشريان، ولا التدفق البشري عبره. فمنذ أقل من عامين فقط كان المعبر الذي يُعرف بـ»خط البترول» هو الأنشط في المنطقة الحدودية الممتدة من العريض الغربي وحتى منطقة حنيدر، حيث لا تزال مخلّفات بعض القساطل شاهداً على عملية تهريب المحروقات اللبنانية المدعومة، عبر تأمين تدفقها من لبنان إلى سوريا. بعدما كانت هذه التجارة معاكسة أيضاً عندما كان سعر المحروقات قبل أحداث سوريا، أدنى مما هو في لبنان. وعليه فإنّ دور هذا المعبر تراجع أمام أدوار إتخذتها معابر أخرى في المنطقة نفسها، مثلها مثل معابر تهريب الأغنام والماعز من سوريا والتي كانت وجهتها النهائية إلى قطر تحديداً، لتتحوّل الثروات التي راكمها أحد أبرز رموز معبر «خط البترول» المعروف بـ»غوار»، إلى الإستثمار في خارج البلاد…
في المقابل يبدو السوق حالياً موجهاً لتهريب الأشخاص. لا بل ترافقت «الهمروجة» السياسية والإعلامية التي شنت في ملف النازحين، مع مزيد من التقاطر لمحاولي إجتياز هذه المعابر بين الطرفين، إستباقاً ربما للإجراءات المتشددة المتخذة على هذه المعابر. وهذا ما يضاعف الجهود المبذولة في هذه الناحية من المعابر الحدودية غير الشرعية.
فما إن يقفل الجيش معبراً حتى يفتح المهربون ثغرة أخرى، وخصوصاً عند المعابر السهلة كمعبر «الشركة المتحدة» والذي يقع عند الطرف السوري تحت سيطرةّ «شبّيحة النظام» ما يعرف بالتسويات، وهي جماعة عملت ضد النظام خلال مرحلة الأحداث في سوريا، وقضت تسوية أوضاعها مع النظام بإطلاق يدها على الحدود غير الشرعية. كما ينشط أيضاً معبر «الواويات» أو «المجدل» في الداخل اللبناني، وهو معبر يستخدم لتهريب البضائع أيضاً، وهناك خيمة للفرقة الرابعة في الجيش السوري على هذا المعبر، تسهل عمليات التهريب وتؤمن لها غطاء من النار أحياناً. كما هي الحال أيضاً عند معبر «الدبابية».
حاجز شدرا مصيدة المهربين والهاربين
ومحاولات التهريب هذه تتكرر على أكثر من معبر على طول الخط الممتد من منطقة العريض الغربي وحتى منطقة حنيدر، وهي منطقة حدودية تمتد على مساحة 14 قرية، يقيم بعض سكانها على أطراف الحدود، فتصنف منطقة آهلة بالسكان، ومن الطرفين. في وقت تنعدم في بعض أجزاء هذه المنطقة، العوائق الطبيعية التي تحول دون استمرار عمليات التسلل الحدودية سواء للأشخاص أو للبضائع.
هذا الواقع يجعل من عملية الضبط الكلي للمعابر غير الشرعية في هذه المنطقة، عملاً شاقاً، تمتد مهماته أحياناً إلى الداخل اللبناني، وتحديداً إلى منطقة شدرا حيث يتركز حاجز لفوج الحدود الأول يقف كمصفاة على عنق القرى الحدودية، فيشكل العثرة الأبرز التي تعيق تدفق الأشخاص كما البضائع المهربة من سائر المعابر غير الشرعية.
وعليه يقدر المهربون صعوبة عبوره ويبتدعون كل الحيل لتجاوزه. لتتكشف عنده أيضاً إبداعات المهربين. كأن يتم توجيه ظهر شاحنة بكميات من البحص، فيما الباطن ممتلئ بعلب التنبك المهرب مثلاً. أو أن يتم ملء جوف صهريج غاز بأشخاص مهربين، مع تجهيزه بكافة الأكسسوارات التي توحي بأنه ينقل الغاز فعلاً، حتى لو جاء ذلك محملاً بخطر تسميم من «يُحشون» في جوف الصهريج.
هذا بالإضافة إلى محاولات الإلتفاف الدائمة حول هذا الحاجز، وخصوصاً في عمليات تهريب الاشخاص، من خلال اللجوء إلى باحات المنازل، والأدراج والمسافات الحرجية المحيطة به. خصوصاً بعد ما أمنته المنفعة المتبادلة من التهريب من شبكة حامية للمهربين، وأحيانا متواطئة معهم، تضم أيضاً مخاتير وموظفين وحتى عاملين في هيئات إنسانية يستخدمون كافة وسائل التحايل لتسهيل مهمات التهريب.
غياب الروادع ومعاملة المهربين برقة
مما لا شك فيه أنّ غياب الروادع القانونية شكل عنصراً بارزاً من عناصر تطور هذه الظاهرة في المناطق الحدودية، بالإضافة إلى الحماية التي تؤمنها بعض المجتمعات لأبنائها الذين يعملون بالتهريب، والدعم الذي يلقاه هؤلاء حتى من نوابهم ومن السلطات السياسية المخولة تطبيق القوانين والقرارات الحازمة بحماية الحدود. وتلفت مصادر متابعة إلى أنّ القوانين اللبنانية لا تتضمن عقوبات رادعة للمهربين ما لم يكن الفعل يتعلق بالإتجار بالبشر أو يعتبر جريمة مالية كبرى. هذا في وقت تبدو السلطة السياسية متواطئة مع المهربين، من خلال بعض التسهيلات والإعفاءات التي سعت لأن تشملهم. كمثل سعي نواب منطقة الشمال في العام الماضي لتعطيل تطبيق الأنظمة التي تسمح بمصادرة الآليات أو الممتلكات المستخدمة في عمليات التهريب. لا بل فُرض التعامل الأمني بكل رقة مع المهربين، بحيث يتم توقيف هؤلاء لساعات ومن ثم يفرج عنهم معززين مكرمين من دون حتى النظر في محتويات هواتفهم أو إحالتهم إلى الضابطة العدلية. وهذا ما يخلق هامشاً من الراحة للمهربين يشجعهم على مواصلة نشاطهم، خصوصاً أنّ توقيفهم أحياناً يشكل فرصة بالنسبة لهم للتنصل من إكمال مهمتهم في إيصال الأشخاص المهربين إلى وجهتهم الأخيرة، سواء أكانت البحر أو الداخل اللبناني، ومن دون أن يخسروا طبعاً أتعابهم التي يتقاضونها مسبقاً.
تتقاطع ظروف التهريب ومكافحته هذه أيضاً عند معابر البقاع غير الشرعية، مع خصوصية عشائرية وحزبية تسيطر على بعض جوانب إستخدام هذه المعابر، وخصوصاً في منطقة الهرمل والتي سنضيء عليها في حلقة ثانية من هذا التحقيق ينشر غداً.
معبر «الشركة المتحدة»
لا يزال معبر «الشركة المتحدة» حالياً الأنشط في تهريب الأشخاص، ولكنه أيضاً الأشهر إعلامياً. يرتبط في ذهن الرأي العام خصوصاً، بمشهد جسر متحرك محاط بعدة كراس مع خيمة على الضفة السورية لمجرى النهر، والتي تختزل واقع الحدود في هذه المنطقة عموماً. فيكفي أن يجتاز المتسللون المجرى ليصبحوا في الأراضي اللبنانية، ومن ثم في حال تعقبهم يكفي أن ينتقلوا إلى الطرف الثاني من النهر لينتفي حق العسكر بملاحقتهم. ونتيجة لهذه التسهيلات التي تبرز عند الطرف السوري من هذا المعبر، لا تتوقف محاولات تسلل الأشخاص.