كتبت نوال نصر في نداء الوطن،
حين اتصلتُ بها أجابتني: «ما في شي بحياتي إلو طعمة». أجبتها: كلّ ألم لا يساعد أحداً هو ألم لا معنى له. التقينا. السيدة منى جمّال الهراوي، ذاقت كثيراً من المرارة في حياتها. عاشت العزّ وعاشت الفاقة. عاشت السعادة العميقة وعاشت الحزن الشديد، واستمرّت في كلِ المراحل: المرأة الفلسطينيّة الجذور، الجميلة، اللبقة، العنيدة والصلبة. إنها حبيبة قلب الياس (الهراوي). زوجته وكاتمة أسراره. سألناها عن ما لم يُنشر عن أسرار الرئاسة ولبنان وزحلة وسوريا والغبن المسيحي وأخطاء أول رئيس (حكم) بعد إنتقال لبنان من الجمهورية الأولى إلى الثانية، فأجابتنا مراراً بابتسامات (ليست من القلب) تروي بها كثيراً مما تريد كتمانه. ورددت في ساعتين عشرات المرات: طار البلد… والسياسة ليس لها ربّ. فصول مفصلية في حياتها روتها “شقّ اللفت” (البيضاء اللون جداً) كما سمّاها ذات يوم الرئيس الياس الهراوي. فلنقرأ منى الهراوي حين تفتح قلبها:
هي من آل جمال، من القدس، انتظرت والدها إبراهيم أن يعيدها ذات عصر من المدرسة الداخلية الى المنزل لكنه تأخر. وبعد سنة، أخذتها جدتها، مع شقيقتيها، الى المقبرة، وأخبرتهنّ: هنا يرقد والدكنّ. قُتل إبراهيم جمال، والد منى، في قذيفة إسرائيلية عام 1948. تسرد منى الهراوي ذلك وكأنه حدث اليوم، للتو، وتتابع: «والدتي لبنانية، من بعلبك، عادت مع شقيقتيّ الى لبنان وبقيت أنا مع جدي وجدتي في فلسطين. وحين توفيا إنتقلتُ الى عمان ومنها الى لبنان. زيارتي الأولى الى هنا كانت وأنا بعمر 16 عاماً. لسوء الحظ لم أستطع الدخول الى الجامعة لأن ابنة بعلبك لا يجوز لها السكن وحيدة في بيروت». تبتسم على مضض ووحده اسم الياس يجعلها تضحك من قلبها: في زحلة، قرب نبع الخريزات، تعرفتُ الى الياس. كنت أتكلم بلهجة فلسطينية فمازحني كثيراً ووصفني بشقّ اللفت. كنت بيضاء وشعري أسود طويل. وصار اللي صار».
رولان ورولان
هكذا هي السيدة منى الهراوي تحاول إنهاء أي فصلٍ من فصول ذكريات العمر بسلاسة بالقول: صار اللي صار. لكن ما الذي صار؟ تجيب: «سرى مسّ كهربائي، كيمياء، بيننا. وكان صريحاً جداً معي. اخبرني منذ اللقاء الأول أنه مطلق ولديه ثلاثة أولاد. أعجبت بحماسته وروح الدعابة لديه. شعرتُ فوراً أنه سيكون نصفي الآخر أنا الفتاة الهادئة التي تحتاج الى شخص مليء بالحياة. أخبرنا الأهل فاحتجوا لكنهم عادوا ووافقوا. وصار اللي صار».
كم كان يكبرها؟ (تضحك كثيراً) كان أكبر مني بأربعة عشر عاماً (هو من مواليد 1926) وتزوجنا عن حبّ. ولا أنسى يوم كان متوجهاً الى بعلبك لنقل جهاز عرسنا وتعرض لحادث سير. كسر سلسلة ظهره ومكثنا في المستشفى ستة أشهر. وأتذكر أنه قال لي: إذا أردتِ الإرتباط بي عن شفقة أتركيني الآن. بقيتُ معه. ضحيتُ كثيراً. أحببته. تزوجنا كنسياً وأنجبنا ثلاثة أولاد: رولان زلفا ورولان. نعم طفلي الأول رولان توفي بعمر السنتين. أنجبته في مستشفى تل شيحا وعرفتُ بعد ثلاثة ايام أنه يعاني من مرض أدى الى عدم إكتمال «سنسلة» الظهر ولن يعيش. شعرتُ باليأس. متُّ قبل الموت. حجزتُ نفسي في غرفتي طوال أربعين يوماً. وفي النهاية قررت أن أجعله يعيش أطول مدة ممكنة. عاش سنتين قضيناها في المستشفى. كان حياتي وأملي وقلبي. تعلقت به كثيراً كثيراً. ويوم مات كنت حاملاً فأخبرتُ الياس أن رولان سيعود. أجابني: لا تكفري. قلت له: لا، ليس كفراً لكن الله سيرسله لي. قدمت نذوراً كي يعود رولان وعاد».
عاد جرولان وأتت زلفا. والألم الذي عاشته – في طفولتها ثم في أمومتها – غيّرها كثيراً ورسم مسحة حزن لم تغب لحظة عن عينيها وتقول «خسارة الولد ليست سهلة أبداً. والحياة التي عشتها لم تكن سهلة أيضاً. عشنا ظروف الحرب وتعذبنا وخسرنا بيوتاً وحياة زوجي كانت في خطر. الحياة قست عليّ وحاولت دائماً ان اعود وأتغلب عليها. كل ما مررتُ به زادني قوة وتصميماً على تحقيق ما أريد».
يوم ارتبطت بالياس الهراوي لم يكن قد اقتحم العالم السياسي بعد وتقول «شقيقه كان قد سبقه أما هو فكان يدير اللعبة من بعيد. كانوا ثلاثة أشقاء على وئام وانسجام. وحين توفي شقيقه قرر الدخول الى عالم السياسة من بابها العريض. أحب الياس السياسة دائماً».
الثالثة ثابتة
هو أحبّ السياسة دائما، لكن ماذا عنها هي: هل أحبتها أيضا؟ تجيب «تكيفتُ معها. ولا شيء بلغناه على سجادة حمراء. في النيابة، أول مرة قرر أن يترشح فيها الياس في العام 1964 أبعدوه، ثاني مرة (1968) أسقطوه، وفي المرة الثالثة (1972) نجح. أصبح لاحقاً وزير أشغال فأفلسنا. ترك أشغاله الخاصة فأصبحنا على الأرض يا حكم. كان لدى زوجي الياس ثلاثة اولاد من زواجه الأول وولدان من زواجنا. مسؤولياته كانت كثيرة. إشتغل كثيراً كان قبضاي ويملك الجرأة. لم يكن يخاف من شيء. وكان يواجه كماً من الصعوبات ليتمكن من الوصول الى زحلة. بقينا في مرحلة من المراحل طوال عامين في زحلة لنحميها. تعرضت زحلة الى مشاكل كثيرة فاختار زوجي البقاء بين اهله وناسه الذين انتخبوه».
كان الياس الهراوي مزارعا كبيراً، يضمن عشرين الف دونم من الارض. واشتغل في البترول في سويسرا وتقول منى الهراوي «الله وفقه وكان مرتاحاً. ويوم أصبح رئيساً للجمهورية اللبنانية لم نبدل أسلوب عيشنا. وصل زوجي الى الرئاسة في أصعب الأوقات. كان البلد «تعتير». وتستطرد: أنا ربيت أولاد الياس. أحببتهم واعتنيت بهم مثلما إعتنيت بزلفا ورولان. وينبع ذلك من شعوري بأنني فقدت والدي وأنا طفلة ولم أرد أن يعيشوا بعيدين عن والدهم. أولاد الياس الخمسة عاشوا متساوين. وهو كان أباً «بيجنن». كان حنوناً «ماكسيموم».
الاسم الثاني بعد معوّض
صعد الياس الهراوي السياسة درجة درجة مستنداً الى إمرأة قوية صلبة. بدأ عضواً في البلدية ثم نائباً ثم وزيراً ثم رئيساً للجمهورية. وأصبحت الرئيسة الأولى لكن بلا قصر ولا سقف ولا مؤسسات. واتخذ الرئيس من ثكنة أبلح في البقاع في البداية سكناً له واستغرق انتقاله الى القصر الجمهوري مسافة زمنية بلغت ثلاثة أعوام. هو أتى بعد استشهاد الرئيس المنتخب رينيه معوض، فهل كان وصوله مليئا بالألغام والتوجسات من اغتيال يتكرر؟ تجيب: «إسم الياس كان مرشحاً قبل رينيه معوض. وأخذ موافقة تجمع نواب الموارنة. لكن، في البعد الإقليمي والدولي، كان الإسم الثاني بعد رينيه. وصار اللي صار. ماذا نفعل؟ أعترف أنني خفت عليه. لم أرد أن أراه جثة. لكنه قال لي: سأتحمل المسؤولية. وهذا ما فعله. أحب السياسة واقتحمها. ومشكلته أن الكثيرين لم يفهموه. أنا أعتبر أن زوجي أكثر واحد حافظ على حقوق المسيحيين. قولي لي أين هي حقوق المسيحيين اليوم؟ أجيبيني (بغضب) أين هي الآن؟
لكن المسيحيين شعروا بالخيبة والغبن في بدايات عهده كثيراً وأحد زعمائهم أصبح في السجن والآخر أصبح في المنفى؟ (تقاطع) كان إما أن نبني دولة أو مزرعة. أنت مسرورة الآن؟ كل مسؤول فاتح على حسابه. بناء الدولة يتطلب التضحية بالذات وهذا ما فعله الياس. لا تنسي أن اميركا سلمتنا حينها الى سوريا لأننا مكثنا 17 عاماً في حرب ولم نتفق. حدث إتفاق دولي عربي قضى بتسليم لبنان الى سوريا. فماذا تنتظرين من رئيس جمهورية دولة استلمتها دولة أخرى؟ لم يكن أمامه إلا التصرف بحنكة ودراية كي يحافظ على بلده. لو كنتِ مكانه كيف تتصرفين؟ إما أن نبقي البلد مهدماً مشلعاً أو نأخذ قرار بناء البلد من جديد».
نفهم من كلامك ان سوريا حكمتنا مباشرة لا الياس الهراوي؟ تجيب: «يا ستنا ليس الياس الهراوي من أتى بسوريا. هي كانت موجودة منذ العام 1975. ماذا كان يمكنه أن يفعل أكثر. أنظري الى البلد اليوم. هل سيستطيعون الإتيان برئيس للجمهورية؟ إذا فعلوا ذلك بقرار ذاتي فسأرفع لهم البرنيطة (القبعة). نحن، ما منسوا بحقّ أنفسنا. اللبناني تاجر».
ثلاث محاولات اغتيال
الياس الهراوي أتى بقبول سوري… (تقاطعنا): وافق الأميركيون عليه وكل الدول. وتستطرد: أتذكر لحظة دوى الإنفجار حاصداً رينيه معوض. كان الياس في بيروت وأنا في زحلة. كل الناس كانت مهددة. حاولوا قتل زوجي ثلاث مرات. تآمروا عليه وهو آت من أبلح الى زحلة. كان يعبر في موكب من ثلاث سيارات. ظنوه في النصف بين سيارتين لكنه كان في مقدمة الموكب. قصفوا السيارة الثانية فقتل عسكريون ونجا هو. من له عمر لا تقتله شدة. هددوني مراراً قائلين: بدنا نقتل زوجك». من فعل ذلك؟ الفلسطينيون والصاعقة والأحزاب وقوى الأمر الواقع. لم يريدوا الإستقرار. والياس ماروني. كل ماروني يبرز حياته تصبح في خطر. ضعي هذه الفكرة نصب عينيك».
نتابع الإصغاء الى منى الهراوي: «استطاع الياس من خلال علاقته الجيدة لاحقاً مع حافظ الاسد من التخفيف من الوجود السوري في لبنان، وهو لم يتنازل عن أي مركز مسيحي- وأعتذر إذا كنت اتكلم بهذه اللغة الطائفية – مع العلم أنه لم يكن متعصباً. تفكيرنا كان منفتحاً دائماً ونؤمن ان الدين لله. لو طبقوا الطائف لما وصلنا الى ما وصلنا إليه. لبنان طوال عمره في طلعات ونزلات. هناك دائما ظروف إقليمية تؤثر عليه ولا يمكننا ان نشكر أحداً أو نشتم أحداً. الظروف الإقليمية تربط الرجل السياسي اللبناني بها شاء أم أبى. لبنان ليس سهلاً أبداً. نحن بلد صغير الجميع يطمع به. وطوال عمر لبنان هناك من يحكمونه من بعيد لبعيد. وهناك من أقحموا أنفسهم في الخارج في حكمه بكل شاردة وواردة. وهذا أثر على العقل اللبناني. وأتذكر أنه يوم كان الياس نائباً دخل السوريون الى بيتنا في بدارو وقبضوا عليه مع مجموعة من الأشخاص، في المبنى، قوامهم 15 شخصاً. حصل ذلك عام 1978. أخذوه وبهدلوه واللي بدك ياه. إعتقدت انهم قتلوه. قال لهم أنا نائب فلم يبالوا. ورفض لاحقاً الخروج إلا بعد أن خرج الجميع. تعذبنا كثيراً».
تتنقل منى الهراوي في كلامها الى زحلة بالقول: «الياس الهراوي هو من خلص زحلة المحاصرة، من خلال علاقته مع حافظ الأسد. لولا شخص إسمه الياس الهراوي لكانوا دمروا زحلة. قال له السوريون يومها: إبنكم يقاتلنا. أولاد الياس قاتلوا السوري في زحلة. واجهوا السوري فوق. هذه الاشياء لا يعرفها الناس. الياس الهراوي أكثر نائب تعذب في حياته في ما يتعلق بزحلة التي حوصرت ثلاثة أشهر. لاحقاً، اصبح مقبولا من السوريين لا مطلوباً. كان كلما ألقى خطابا يطير لنا بيت. وهو قال في مقابلة له مع مي كحاله: بدل أن يذهب السياسي الى سوريا ويمد لها يده بالمقلوب (تضع يدها اليمني على أذنها اليسرى) فلنمدها مباشرة (اليد اليمنى على الأذن اليمنى). فهم زوجي اللعبة وقال فلنكن واقعيين. رأى جيداً أن لبنان بيع الى سوريا. فهم اللعبة السياسية الكبرى وأنه إذا لم نساير ولم تكن علاقتنا جيدة مع سوريا لن يمكننا البقاء».
هل نفهم من ذلك أنه قدم تنازلات؟ تجيب «أبداً، هو الوحيد الذي لم يقدم تنازلات. هو الوحيد الذي كان حافظ الأسد يصغي إليه. كان حين يقول له: لا استطيع القيام بما يطلب يجيبه الأسد: كما تشاء أبو جورج. الرئيس حافظ الأسد كان ذكياً جداً وفهم اللعبة أيضاً جيداً».
لحظة إعلان إسم الياس الهراوي رئيسا للجمهورية اللبنانية شعرت منى الهراوي برعب كبير وتقول: همست حينها في أذنه: هذا ما أردته أنت وحدث. أراد زوجي أن يتحمل المسؤولية. ولاحقاً، إقتنعت أكثر أن من خلّص زحله يمكنه تخليص لبنان. لا فكرة لديك كيف كانت زحلة وكيف خلصها. ركب المسؤول القواتي عن القوة العسكرية في زحلة (جو إده) في سيارته ومعه محمد غانم (قائد قوات الأمن والإستطلاع السوري في لبنان). إعتقد الأخير أن إده ابنه. وحين عرف انه جو إده نقز وقال لزوجي: هل يعقل أن يركب معي في نفس السيارة؟ من يجرؤ أن يفعل ذلك غير الياس الهراوي؟ ساعد الياس في تخليص زحلة. كان الدم قد وصل الى الركاب». تصمت قليلا ثم تقول: «يجب أن أكتب كتاباً».
لكنك، منى الهراوي، قلت في البداية: حياتي بلا طعمه؟ تجيب: «ما حصل بات من الماضي. وأنا أحاول عبثا نسيان الماضي لأنني تعذبت كثيراً. أعتبر كل ما عشت ذكريات صعبة وقاسية. حين صوّت الياس الهراوي الى بشير الجميل مكثت مع الأولاد ثلاثة أشهر وحدي، استعين ببابور الكاز، بدون كهرباء، وبالكاد كنا نحصل على الخبز. تعتير. رأيت العز ورأيت الفقر. ولم يعد أي شيء يهزني. وأتذكر أنه حين إقترع الياس الى بشير (الجميل) وأمّن له أربعة أصوات نظر إليه كل من كميل شمعون وأمين الجميل «بالورب». لم يريدوا ذلك. أحب الياس بشيراً ووجد فيه رجولية وقوة لكن حرام طلع عمره قصير».
نعود لنتركها تسرح في ذكرياتها: «الآن يترحمون على الياس. بعد إنتهاء ولايته قال لهم: أنا سأكون آخر رئيس جمهورية مدني. فهم اللعبة جيداً. وهو على فراش الموت وضع خارطة طريق قال فيها: هناك لعبة تحدث للعالم العربي والله يستر. ويوم قتل رفيق الحريري قال لي: طار البلد. ونهاية بيت الحريري ستكون مثل مصير آل كينيدي. لاحقاً، وقع الياس وكسر ظهره وتبينت إصابته بالسرطان وبالقوة جعلته يعيش عام وكان يقول لي: دعيني أموت لا أريد أن أرى مصير لبنان. كان يراه متجهاً للخراب. كل شيء في هذه الدنيا فانٍ».
اراد الياس الهراوي، بحسب زوجته منى، أن يفعل الكثير. أراد إلغاء الألقاب (صاحب الفخامة، المعالي، السعادة) لكنه لم ينجح. أراد إقرار الزواج المدني ولم ينجح وتقول «صحيح أن الرئاسة عزّ. تعززنا، سافرنا، أعدت بناء المتحف الوطني. أسست مركز الرعاية الدائمة. وهو عمل ما لا يعمل لكن لا يمكن القيام بأكثر من ذلك في بلد مثل لبنان. الحكم في لبنان صعب. إذا لم تتفقي مع رئيس المجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء لا يمكنك فعل أي شيء. الطائف نزع صلاحيات من الرئيس وأعطاها الى مجلس الوزراء. ولو لم يكن الياس جريئاً لما استطاع فعل شيء».
منى الهراوي هي من وضعت لمساتها على القصر الجمهوري المهدم بعد خلوه من ميشال عون وتقول «طلبت من الأصدقاء المقتدرين إجراء التصليحات اللازمة وقلت لهم: لا يجوز أن يمكث رئيس جمهورية لبنان في بيت. الأصدقاء هم من دفعوا ثمن الترميم لا الدولة. والشيخ زايد بن نهيان ساهم أيضا بذلك». وبعد خروجها وزوجها من القصر بقيت تزوره ايام ميشال سليمان وأيام إميل لحود وتقول «إميل لحود عادانا في البداية و… ماشي الحال. علاقتي مع وفاء سليمان أفضل من سواها لأنها طيبة. يمكن أن نأخذ ونعطي معها؟ أما بالنسبة الى ميشال عون، فأنا إمرأة مهذبة. زرت القصر حسب الأصول يوم وصل الى الرئاسة واقتصرت الصلات على تلك الزيارة. هو اعتبر ان زوجي كان وراء عملية 13 تشرين مع العلم انه طلب منه إعطاء الأمر بالتوقف عن المواجهة لكنه لم يفعل إلا بعد أن أقحم العسكريين وتسبب بسقوط ضحايا في صفوفهم. لم نكن نتمنى أن يحصل ما حصل لكن لم يكن أمامنا إلا أمر من إثنين: إما أن نبني دولة أو نساير مثلما فعلوا هم لاحقاً. زوجي ضحى من أجل شعبه. أما السياسيون اليوم فيأتون كي يراكموا ثرواتهم وليس فارقاً معهم الشعب. نحن كنا نقتل أنفسنا من أجل الشعب. نحن، ليس لدينا بيت في باريس. ليس لدينا إلا البيت الذي نسكنه. وكان الياس يقول لي: لن أسمح بتوظيف ولد في الدولة. ويوم قررت بناء مركز الرعاية الدائمة قال لي: أنت اليوم زوجة الرئيس والكل سيساعدونك لكن سيأتي يوم لن تجدي من يبالي بك. تحديته. طلب مني لاحقاً أن أعطيه للدولة فأجبته: أختمه بالشمع الأحمر ولا أعطيه للدولة».
تسمي منى الياس الهراوي أسماء بقيت الى جانبها اليوم من بينها: مروان حماده وبطرس حرب وتستطرد: «السياسة ليس لها ربّ. إنها كذبة كبيرة».
تعود لتتحدث عن أيام ميشال عون في القصر «بقي سنة وثلاثة أشهر هناك. وكان إما هو أو الياس الهراوي. وحدث ما حدث، ماشي الحال. واحد منهم كان يفترض به ان يغادر. وهو لم ينفَ الى باريس بل سافر إليها. وعاش أفضل مما عشنا نحن. أما سمير جعجع فأرسل له رسالة ليغادر. قال له: غادر اليوم وسنرى لاحقاً ما يمكن فعله لكنه رفض، فماذا كان يمكننا فعله أكثر».
هل دفع سمير جعجع أثماناً عن سواه وعن واقع جديد تأسس في لبنان جرى تسليم لبنان بمقتضاه الى سوريا؟ هل ظلم؟ تجيب منى الهراوي: «يمكن نعم ظلم، لكن الظلم الذي لحقه لم يكن الياس الهراوي سببه. أتى القرار من سوريا ومن قيادة الجيش التابعة يومها لسوريا».
مرّ رؤساء حكومات عديدون أيام الياس الهراوي: رفيق الحريري وعمر كرامي وسليم الحص ورشيد الصلح لكن الأقرب إليه كان الحريري وتقول «إتفق الياس مع رفيق الحريري الذي كان يميل إليه منذ كانا في الطائف. كان الياس «شغيل» وقادر أن يبني البلد معه من جديد. وقتل الحريري لم يكن سهلاً. خاف عليه الياس كثيراً خصوصاً حين سمعه يقول: استودع لبنان الحبيب. إتصل به وقال له: لماذا قلت ما قلته؟ أجابه: هذا هو الكلام الأصح الذي يقال اليوم. كان الرجلان يعرفان، من خلال المخابرات، بوجود خطر كبير داهم. احب الياس رفيق جداً. وحين كنا نتناقش حول إرتكابات يقوم بها الحريري كان الياس يقول لي: إهتمي أنتِ بالعمل الإنساني واتركي لي العمل السياسي».
هو كان مقرباً ايضاً من نبيه بري بعكس علاقته مع حسين الحسيني الذي حدث معه سوء تفاهم. لم يكن الحسيني يريد الياس. السياسة ليس لها ربّ.
إشتغلت منى الهراوي على نفسها. درست الفرنسية بعدما أصبحت الرئيسة الأولى ونجحت في التحدث بها. كما تمرست في بلاغة اللغة العربية وتقول «أتيت بأستاذ خاص علمني الفرنسية لأنني أردت دائما أن أمثل بلادي على أكمل وجه». أسست العام 1994 مركز الرعاية الدائمة ( المخصص لمرضى التلاسيميا) وتقول «هو من أجمل الأشياء التي حققتها. أفرحني. وهو يضم حاليا 3200 مريض. وأهيئ زلفا، إبنتي لتتولاه من بعدي».
زلفا اليوم مسرورة بأولادها وهي تركت زوجها (فارس بويز). ولداها في دبي وأثينا وابنتاها (ريا وأندريا) تديران مطعما في الجميزة. أما ابنها رولان فيعمل حالياً في مجال البنوك (تضحك كثيرا لوضع حال من يعملون في البنوك اليوم). ولديه ثلاثة أولاد طارق ومنى وساره وثلاثتهم في الإغتراب. وهي حريصة على أن يكون الأحد للأولاد. تجمع من يمكن جمعهم في نهار عائلي.
بيتا الهراوي وسكاف أقفلا
ماذا عن بيت الياس الهراوي السياسي؟ هل أقفل؟ تجيب: «من سبعة أعوام قلت أن بيت الهراوي وبيت سكاف انتهيا سياسياً». وتستطرد: «أنا قلت لرولان: إبني إهتم بعائلتك وشو بدك بالسياسة». وكم بقي من فلسطينيتها فيها؟ تقول «ليتني أستطيع زيارة قبر والدي في القدس القديمة، في دير الروم. هذا حلم. فلسطين جنة».
حين تنظر في صور الياس الهراوي الكثيرة في الأرجاء ماذا تقول له؟ أين أخطأ؟ تجيب: «كان يجب ان يرفض مسألة التجنيس. إنها غلطة اقترفت. والناس جميعاً غير معصومين عن الخطأ. لكن القرار كان بيد مجلس الوزراء وليس على الرئيس إلا التوقيع وإذا لم يفعل يضعونه في الدرج الى أن يصبح نافذاً».
هي تحتفظ من الياس الهراوي بكثير من الذكريات وببزّته ومسبحته وتقول: كان يغار عليّ كثيراً وكان إذا رأى أحداً يحادثني يقول له: إنتبه (تضحك لذلك ايضا كثيراً). هو كتب مذكراته في كتاب عنونه: «عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة». فهل دوّن بين صفحاته كل شيء؟ تجيب: «أشياء كثيرة لا يجرؤ المرء على روايتها. وهناك اشياء تمنيت عليه ان لا يذكرها. قلت له: سنعرّض حياة اولادنا للخطر والاحداث ذهبت مع الأيام وهناك أمور (تضحك) شحلتها من الكتاب».
في المحصلة، بماذا تختم عن خلاصة تجربتها؟ نتركها تكتب للقراء ما يستحق أن يكون عبرة: «حياتي مع زوجي كانت تجربة صعبة لكن مع مضي الوقت تخطينا كل الصعوبات ولم أندم يوماً أنني كنت معه لأنه رجل صريح ومحب ومتفان».