كتبت رنى سعرتي في “نداء الوطن”:
«في أزمة بلبنان أو وِلعانة بلبنان؟» السؤال الذي يطرحه الجميع عندما يعانون يومياً زحمة سير خانقة ليلاً نهاراً، علماً أن أسعار المحروقات زادت أكثر من 16 ضعفاً في عام واحد فقط، أو عندما يقصدون المطاعم أو الحانات أو بيوت الضيافة والأماكن السياحية أو المجمعات البحرية الخاصة، أو حتّى المجمّعات التجارية التي عادت أسعارها تساوي معدلات ما قبل الأزمة لا بل أكثر أحياناً والتي تبلغ الحجوزات والحركة في معظمها نسبة 100 في المئة، علماً أن البنك الدولي صنّف لبنان أخيراً في المرتبة الأولى عالمياً في تضخّم أسعار الغذاء، وأشار الى أن معدل التضخّم الذي بلغ 171.2 في المئة في العام 2022 من أعلى المعدّلات على مستوى العالم.
فهل تأقلمت البلاد فعلاً مع الأزمة الاقتصادية وبلغت توازناً أو استقراراً اقتصادياً، وبدأت تحقيق النمو رغم غياب الإصلاحات والمعالجات الجذرية لأسباب الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية الأسوأ؟ هل هذه الزحمة وارتفاع نسبة الوافدين الى لبنان ونسب الحجوزات المرتفعة التي تشهدها الأماكن السياحية، هي المؤشر الفعلي أو الصحيح لتعافي الاقتصاد واستعادة النمو كما أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بداية هذا العام، متوقعاً أن تبلغ نسبة النمو 4 في المئة أو كما قدّر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي نسبة النمو في 2022 بـ2 في المئة متوقعاً أن تبلغ بين 4 و5 في المئة في 2023؟
قد يؤيّدهم روّاد السهر في تلك التقديرات، إلّا أن 60 في المئة من الشعب اللبناني المصنّف ضمن خانة الفقر بنسب مختلفة قد يسألون: «على أي كوكب يعيش حكّامنا؟»
الثروة مركّزة بين أيدي قلّة
يمكن تشبيه الحالة الاستثنائية لواقع الحركة الاقتصادية النشطة التي تظهرها الأماكن السياحية والمطاعم في لبنان، بالودائع المركّزة قبل الأزمة، حيث كان 1 في المئة من المودعين يملكون 50 في المئة من قيمة الودائع في النظام المصرفي أو 0.01 في المئة من المودعين يملكون 20 في المئة من الودائع. فإن هذا الأمر ينطبق أيضاً على روّاد السهر والمطاعم…. حيث إن حوالى نسبة 5 الى 10 المئة من الشعب اللبناني والمصنّفة ضمن الطبقة الميسورة بالإضافة الى المغتربين اللبنانيين هم الذين يرسمون مشهد الزحمة والاكتظاظ في الأماكن السياحية، وهم الذين يحوّلون بيروت ليلاً الى Ibiza الشرق الأوسط. لأن الواقع والمؤشرات الحقيقية لا تتماشى مع تقديرات المسؤولين اللبنانيين، بدليل أن تقرير «المرصد الاقتصادي للبنان» ربيع 2023 الصادر عن البنك الدولي يقدّر «انخفاض إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 2.6 في المئة في عام 2022، ليصل إجمالي الانكماش الاقتصادي منذ عام 2018 إلى 39.9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي». ورغم أن التقرير لفت الى «أن وتيرة التراجع الاقتصادي في لبنان في عام 2022 تباطأت»، لكنه شدد على أنه «لم يطرأ أي تغيير جوهري على مسار التراجع بشكل عام. وعلى الرغم من التحسّن الطفيف في نشاط القطاع الخاص، لا يزال العجز المتزايد في الحساب الجاري، والذي يشكّل خللاً بنيوياً قديماً، يؤثر على آفاق النمو». ورأى التقرير أن «التباطؤ في انكماش النشاط الاقتصادي لا يعني تحقيق الاستقرار، متوقّعاً انكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 0.5 في المئة إضافية في عام 2023، مشيراً الى أنه «ما دام الاقتصاد في حالة انكماش وظروف الأزمة قائمة، سيزداد تراجع مستويات المعيشة، وستستمرّ معدلات الفقر في الارتفاع».
وحتّى لو ظهرت مؤشرات نمو اقتصادي أو نما الاقتصاد بالفعل بنسبة 2 أو 4 أو 5 في المئة كما يتوقّع البعض، فإن هذا النمو لا يعني استعادة عافية الاقتصاد، لأن الانكماش الاقتصادي بلغ 43,7 في المئة منذ العام 2019 ولغاية 2022 وفقاً لمعهد التمويل الدولي، وبالتالي يحتاج الاقتصاد لينمو بهذه النسبة في سنوات قليلة لكي يستعيد عافيته أو لكي يعود حجم الناتج المحلي الإجمالي لمستويات ما قبل الأزمة.
البلد يسير بسرعتين
وعلى حدّ تعبير الوزير السابق عادل أفيوني الذي أشار الى حجوزات المطاعم وازدهار الحياة الليلية، فإنه «لا يمكن أن تقيّم وضع الاقتصاد من خلال سلوك أسعد وأفضل 5 في المئة من الشعب»، لافتاً الى تقرير اليونيسف بأن «أزمة لبنان المتفاقمة تحطّم آمال الأطفال» الذي كشف أن 9 من كل 10 أسر في لبنان (أي ما یناھز نسبة 86 في المئة من الأسر المشمولة بالتقییم) أقرّت بعدم حیازتھا حالیاً ما یكفي من مال لشراء الضروریات، مقارنة بنسبة 76 في المئة قبل عام واحد فقط.
وأوضح أفيوني لـ»نداء الوطن» أن البلد يسير بسرعتيْن two speed country حيث هناك نسبة معيّنة من الشعب اللبناني بحدود 10 الى 20 في المئة التي تتقاضى مدخولاً بالدولار أو تتلقى التحويلات من الخارج، والنسبة المتبقية التي ما زالت تتقاضى مدخولاً بالليرة. وبالتالي أصبح المجتمع «المدولر» متأقلماً مع الأزمة ويساهم في تحريك عجلة جزء من الاقتصاد، لافتاً الى أن الزحمة والاكتظاظ في بعض الأماكن او المطاعم لا تشير وحدها الى نمو أو تعافي الاقتصاد لأنها تشمل نسبة بسيطة من إجمالي الشعب اللبناني.
هوة بين قلة أغنياء وكثرة فقراء
في المقابل، لفت أفيوني الى المجتمع الأكبر الذي لا يزال يتقاضى مدخولاً بالليرة والذي يضمّ موظفي القطاع العام والمتقاعدين والجهاز العسكري والمودعين الذين تمّ إقصاؤهم وتجاهلهم نهائياً… أصبح هذا المجتمع خارج المجتمع الاستهلاكي، ما خلق هوّة كبيرة جدّاً بين المجتمع المدولر وبين «الفقراء الجدد».
وأكد أن غالبية مظاهر الحركة الاقتصادية التي نشهدها «لا تدلّ على نمو الاقتصاد لأنها حركة استهلاكية، «دولار فايت، دولار ضاهر»، ما يعيدنا الى النموذج القديم الذي أوصلنا الى الانهيار وهو الاقتصاد القائم على الاستهلاك وليس الاقتصاد المنتج»، لافتاً الى أن الفارق الوحيد هو أن النموذج الجديد لا يستفيد منه سوى أقلية وهي المجتمع المدولر على عكس ما كان رائجاً في السباق بسبب تثبيت سعر الصرف.
وبالتالي أكد أفيوني أن تقييم الوضع الاقتصادي على أساس الحركة التي يتسبّب فيها الاقتصاد المدولر أي اقتصاد الاستهلاك، هو تقييم سطحي وغير صحيح، مشدداً على خطورة وجود تلك الهوّة الكبيرة بين المجتمع المدولر والمجتمع الفقير ما قد يولّد أزمة اجتماعية.
الوافدون يشكّلون الجزء الأكبر
من جهته، أوضح عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي عدنان رمال أن 20 الى 25 في المئة من الشعب اللبناني ومن بينهم الوافدون بالنسبة الكبرى ويليهم الميسورون وأصحاب المهن الحرّة وأصحاب المداخيل بالدولار، هم الذين يرتادون المطاعم والمقاهي والحانات ويساهمون في الحركة المكتظة والنشطة في فئة معيّنة من الأماكن وليس جميعها. وأشار لـ»نداء الوطن» الى أن الوافدين الى لبنان هم السبب الرئيس في تلك الحركة و95 في المئة منهم هم لبنانيون مغتربون وليسوا سيّاحاً أجانب.
ولفت رمال الى أن الحركة النشطة التي تشهدها الأماكن السياحية أو المطاعم وغيرها تتواجد في مساحات صغيرة وفي مناطق معيّنة (جمّيزة، بدارو، زيتونة…) وفي أماكن ذات مستوى معيّن أيضاً. وبالتالي فإن نسبة الـ20 في المئة من الشعب اللبناني أي حوالي مليون شخص كفيلة بخلق هذه الحركة التي نشهدها وكفيلة بتسبب الاكتظاظ في قطاعات محددة كالمطاعم وغيرها وفي مناطق معيّنة، «فهم يشكلون رقماً كبيراً نسبة الى حجم لبنان الصغير. ولكن هل لبنان يضمّ مليون شخص فقط؟ ماذا عن الأربعة ملايين الآخرين العاجزين عن تأمين حاجاتهم الأساسية؟ وماذا عن المؤسسات والمطاعم أو القطاعات الاقتصادية الأخرى وفي المناطق الأخرى؟».
المغترب ليس سائحاً
واعتبر رمال أن الاقتصاد اللبناني قائم حالياً على تلك الفئة من الشعب اللبناني أي على نسبة الـ20 في المئة التي تشمل المغتربين، مشدّداً على أن الحركة النشطة في جزء من قطاع المطاعم أو أماكن السهر لا تعني أن الاقتصاد تعافى وبحالة نمو، لأن الحركة تقتصر فقط على تلك القطاعات ولا تشمل جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى التي تعاني تراجعاً في أعمالها، بدليل أن الحركة في قطاع المطاعم لن ترتدّ على غيرها من القطاعات بسبب عدم وجود قطاع مصرفي كان يلعب دور الوسيط سابقاً، قادر على استقطاب أموال قطاع المطاعم وتسليفها لقطاعات أخرى وتحريك العجلة الاقتصادية.
وفي الختام، انتقد رمال أرقام وزارة السياحة التي تشير الى قدوم مليون و600 ألف سائح، مؤكداً أن جميعهم مغتربون لبنانيون وعائلات لبنانية لديها أماكن سكن خاصة بها في لبنان، وليسوا سيّاحاً أجانب أو خليجيين يقصدون لبنان ويقيمون في الفنادق…