كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن،
في معرض مناقشة التحقيقات التي نشرتها «نداء الوطن» حول واقع بعض إدارات الدولة في البقاع، بدا لافتاً ما أثاره البعض حول استعداد الناس لقبول السمسرات والرشاوى التي تلوح شبهاتها في بعض الإدارات، إذا كان ذلك هو الثمن لاستعادة ديناميكيتها في المرحلة المقبلة. نزعة تبرز حال اليأس التي وصل إليها الناس، وفقدانهم الأمل بالإصلاح، حتى لو كان شرطاً من الشروط التي وضعها المجتمع الدولي، من أجل تخفيف الهدر الناتج عن التوظيفات الزبائنية.
باستثناء بعض المبادرات الفردية التي يُشهد لها في الإدارة العامة، لم يتح الإستطلاع الميداني لواقع بعضها بقاعاً، الإمساك ولو ببارقة أمل وحيدة حول إمكانية خروج هذه الإدارة من كبوتها. بل بدا في بعض الحالات أنّ هناك أكثر من طرف وعامل يمعنان في إغراقها بالفوضى الحاصلة. وفيما اللبنانيون عموماً يبدون نزعة دائمة للإعتماد على أنفسهم والتأقلم مع الظروف المحيطة بهم، فإنّ المسألة تبدو أكثر صعوبة وتعقيداً عندما تتسلل الفوضى الى الدوائر التي تُعنى بصحة الناس واستقرارهم الإجتماعي، فحينها يكون للأزمة بعد آخر.
مؤسسة الأمان
«نداء» الوطن» تنهي جولتها الإستطلاعية في مؤسسات الإدارة العامة بقاعاً في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. هذه المؤسسة التي لا يمكن الحديث عن أحوالها الوظيفية، من دون التطرق إلى ما تتركه أزمتها من تداعيات على الإستقرار الإجتماعي والصحي للمواطنين. فالضمان هو مؤسسة الأمان الإجتماعي، كما يقول عدد من المواطنين، وبغيابها يفقد الناس هذا الأمان، ويصبح الكل متسولاً على أبواب المستوصفات والجمعيات التي تعنى بالمساعدة الصحية.
يعتبر البعض أن في تعطيل تقديمات صندوق الضمان الصحية والإستشفائية خصوصاً، خطورة توازي رفض استقبال مريض يحتاج لإسعاف على أبواب مستشفى. ويتحدث هؤلاء عن تكاثر حالات الوفاة المفاجئة التي ارتفعت في الفترة الأخيرة، ليتبين أنها ناتجة عن عدم الإستجابة لعوارض صحية تعرّض لها المريض قبل وفاته، أو لتحاشي الدخول الى المستشفى أو مراجعة طبيب. في وقت تؤكد جمعيات وهيئات ناشطة بمساعدة المحتاجين، أنّ طلب الدواء منها تزايد أضعافاً منذ بدء الأزمة حتى اليوم، حتى أنّ المستوصفات باتت تستقبل أشخاصاً لم يكونوا في الماضي من الطبقة التي تقصد خدماتها. هذا عدا عن توجه جزء كبير من الناس الى الدواء المهرّب أو الذي يتم إحضاره فردياً من سوريا وتركيا وغيرهما من البلدان التي يكون فيها سعر الدواء أقل كلفة، ليصبح تعطّل خدمات الضمان الإجتماعي الصحية، سبباً إضافياً يؤدي الى تسلل الفوضى لسوق الدواء في لبنان.
في المقابل تؤكد مصادر مسؤولة في مؤسسة الضمان الإجتماعي في زحلة أنّ ماليات الصندوق حملت مؤخراً وفراً كبيراً، وخصوصاً في صندوق التعويضات العائلية. فمن ناحية أقدمت شركات ومؤسسات لم تسدد إشتراكات موظفيها منذ فترة على تسديدها حالياً، مستفيدة من قيمة هذه الإشتراكات ومتأخراتها المتدنية بالدولار. ومن ناحية ثانية فإنّ تسديد الإشتراكات بالنسبة للمسجلين في الضمان، لا توازيه نفقات مشابهة. إذ أّن ثمن الدواء إرتفع عشرات الأضعاف، فيما لا يزال الضمان يسدد قيمته على تسعيرة أربعة آلاف ليرة للدولار، أي بما يوازي خمسة بالمئة فقط من كلفته الفعلية. وهذا ما دفع بكثيرين مسجلين في الصندوق الى عدم تقديم فواتيرهم، كما كانوا يفعلون بإنتظام قبل انهيار قيمة العملة اللبنانية.
أصحاب «النمر الحمراء»
عندما قصدنا مركز الضمان على أوتوستراد مدينة زحلة، إلتقينا عدداً من الأشخاص الذين كانوا يتحلّقون حول موظف يشرح لهم الزيادات الإضافية التي طرأت على اشتراكاتهم في المؤسسة. فتبيّن أنّ هؤلاء هم أصحاب «النمر الحمراء» اي مالكو سيارات النقل العمومي، والذين تلزمهم الأنظمة والقوانين بتجديد إشتراكاتهم في الضمان وتسديد أقساطها كل أربعة اشهر، تحت طائلة خسارتهم للوحة العمومية.
بدا التململ كبيراً على الزيادات الإضافية التي فرضت على الإشتراكات، والتي بلغ حدها الأدنى كما أكد السائقون أربعة ملايين ليرة، تسدد كل أربعة اشهر، بعدما كان المبلغ لا يتجاوز المئة إلى مئة وخمسين ألف ليرة سابقاً. إلا أنّ مشكلة هذه الطبقة الكادحة من اللبنانيين ليست في الزيادات التي طرأت على إشتراك الضمان، إنما لكون هذه الزيادات لم تترافق حتى الآن مع رفع لتقديمات الطبابة والإستشفاء. فاللوحة بالنسبة لهم لا تشكل فقط مصدر رزقهم، وإنما كانت لفترة من الفترات ضمانتهم أيضاً في حالات المرض. وحرمانهم من هذه الضمانات يظهر الدولة بالنسبة لهم وكأنها «تسرق» مواطنيها أو تفرض على لوحاتهم «خوة»، أما تمرد السائقين من خلال امتناعهم عن الدفع فسيكلفهم خسارة اللوحة التي استدان بعضهم لشرائها سابقاً.
يبدو الواقع شبيهاً حالياً بالنسبة لمعظم المسجلين في مؤسسات الضمان الإجتماعي. لا بل ينطبق الأمر حتى على موظفي الضمان الإجتماعي الذين يصلح وصفهم بـ»السكافي الحافي» في هذه الحالة. ومن هنا يتشارك موظفو الضمان مع سائر الموظفين في مطلب رفع تقديمات الضمان بما يوازي حجم التضخم الحاصل، وعينهم على ما لحق بتقديمات تعاونية الموظفين من تحسين في قيمة التقديمات. وإذ يؤكد هؤلاء أنّ الأموال متوفرة في الصندوق، يعتبر بعضهم أنّ هناك تقصيراً من قبل مجلس الإدارة باتخاذ القرارات التي تنقذ الصندوق من الغرق في الفوضى، وتؤمن الإستقرار الإجتماعي للمواطنين. وبرأيهم إنّ أي تأخير إضافي بإدخال التعديلات اللازمة على هذه التقديمات يعزز الشكوك حول المؤامرة التي يتم تداولها حول نية البعض في تدمير مؤسسات الدولة.
التغطية باتت هزيلة
يقول مصدر مسؤول إنه إضطر لأن يقصد أحد مستوصفات الدواء في منطقة البقاع الغربي، لتأمين حاجة والده المسجل على اسمه في الصندوق. ويضيف «نحن موظفون مثلنا مثل غيرنا، ونحن أيضاً مسجلون في الضمان، وبالنسبة لنا تغطية الضمان باتت هزيلة جداً، إذ أن الضمان كان يغطي فاتورة الإستشفاء بنسبة 90 بالمئة وفاتورة الدواء بنسبة 80 بالمئة، أما ايوم فبالكاد نصل الى تغطية بنسبة 5 بالمئة».
في مذكرة صادرة عن الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي رفعت تغطية فاتورة أدوية القلب والامراض المزمنة من الكوليستيرول والتريغليسيريد وغيرها، بمعدل 12 مرة للأدوية المستوردة و15 ضعفاً لأدوية الجينيريك. هذا الإجراء يقول المصدر، زاد عدد المعاملات مجدداً في المؤسسة، والتي كانت قد انخفضت بنسب كبيرة جداً في المرحلة الماضية. فالمبلغ المحدد سابقاً لم يكن يغطي كلفة إنتقال البعض الى مقر الصندوق والتردد إليه أكثر من مرة قبل الحصول على التعويضات. وهذا ما جعل أعداد المعاملات المنجزة من قبل الموظفين تتدهور مما يفوق المئة معاملة في اليوم، إلى أقل من عشر معاملات. إلا انه يوضح أن هذا التراجع في دينامية العمل بدا بشكل أوضح في دائرة الصحة، فيما يمكن القول إنّ وتيرة العمل حافظت على مستواها في دوائر التعويضات العائلية ودفع الإشتراكات. فالأزمة على ما يبدو شكلت فرصة بالنسبة لأصحاب المؤسسات لتسديد متأخرات الإشتراكات عن موظفيهم، قبل ان يطرأ عليها اي تعديل، علماً أنّ قيمة هذه الإشتراكات بالدولار جعلتها «ببلاش» تقريباً. إذ أن الشركة كانت تدفع عن الموظف الأعزب مبلغ 175 ألف ليرة سنوياً وكانت توازي مئة وعشرين دولاراً تقريباً، فيما قيمة ما يسدد حالياً حتى بعد رفع الحد الأدنى للأجور الى تسعة ملايين ليرة لا تتجاوز الـ25 دولاراً.
تسديد غير مجدٍ
هذا في وقت أصبح تسديد هذه المبالغ غير مجدٍ بالنسبة للمستفيدين من الصندوق، خصوصاً أن لا تقديمات توازي حجم التضخم في فاتورة الصحة والإستشفاء، فيما رفع التعويضات العائلية للزوجة والأولاد يبقى غير كافٍ حتى الآن وفقاً لهؤلاء.
إنطلاقاً من هذا الواقع تظهر المشاهدات تفاوتاً في حركة الدوائر التي يحضنها صندوق الضمان. فبمقابل الزحمة أمام مكاتب الإشتراكات والتعويضات العائلية، هناك تراجع في حركة تسديد التعويضات. إلا أنّ كل الموظفين كما يؤكدون يعملون من «حلاوة الروح». وليس ذلك فقط لما يتشاركونه مع سائر المواطنين من تراجع في قيمة رواتبهم، وإنما لما يصادفونه يومياً من حالات تجعلهم أكثر إلتصاقاً بالواقع الذي وصل اليه اللبنانيون عموماً.
في المقابل، تؤكد المصادر أنّ صندوق الضمان لم يتأثر إدارياً بالإنهيار الذي ظهر في أكثر من دائرة رسمية. كمؤسسة ذات منفعة عامة بقيت مواردها المشغلة بحال أفضل من غيرها، والمكننة فيها لا تزال شغالة، علماً انها معممة في كافة وظائف الضمان بإستثاء «تصفية الإستشفاء».
إلا ان ذلك لا يعني إنعدام الفرص أمام بعض الموظفين في إيجاد ثغر تحقق لهم مكاسب إضافية. والصيد الأثمن هو في دوائر التفتيش ففيها دفع الرشاوى بهدف التهرب من الأنظمة والقوانين وحتى بعض المدفوعات الإضافية.
حلوينة الموظف
يقول أحدهم إن «إبن زحلة والبقاع عموماً لا يمانع في «إكرام» الموظف، وإعطائه «حلوينة» في مطلق معاملة ينجزها». إلا أن المفارقة التي لم يتنبه لها، ان هذه الحلوينة اسمها «رشوة» ومن يستخدمها غالباً ما يفعل ذلك للتهرب من موجبات قانونية أو مالية، وهذه الرشوة هي واحدة من تلك الأسباب التي جعلت الفوضى تتسلل الى الإدارة اللبنانية، حتى بلغت الإدارات مع الأزمة حالة موت سريري، لا يبدو الخروج منه ممكناً من دون خطوات إصلاحية جدية، لا تزال غائبة عن أولويات رأس هرم السلطة اللبنانية على رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على بدء الأزمة حتى الآن.