كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن،
كشفت سلسلة الحرائق التي اندلعت في الأسابيع الماضية وهدّدت بنيرانها سلامة المواطنين، عن تراجع في نسبة الوعي والثقافة الوقائية في مجتمعنا، مع أنّ هذا المجتمع شريك أكثر من ضروري في تدارك مخاطر النيران وإشتعالها، عمداً أو قدراً، وخصوصاً في لبنان حيث تتسلل تداعيات الإنهيار الإقتصادي إلى مختلف المؤسسات، ومن بينها الدفاع المدني.
يوضح المدير الإقليمي للدفاع المدني في البقاع فايز الشقية أنّ مهمّة إطفاء حريق مستودع الأقمشة في الضاحية الذي شاركت فيه المراكز الإقليمية وعناصرها من مختلف المناطق، تلبية للنداء الذي يوجه عند وقوع كل كارثة، لم يكن يفترض أن يستنزف كل الجهود التي بذلت والوقت والتجهيزات لو كان صاحب المخزن ملتزماً بمعايير السلامة في بناء المستودع وتجهيزه، وأمّن له متطلبات التهوئة والمداخل الجانبية، ولم تكدّس فيه البضائع بالشكل الذي تم.ّ
إلا أن هذا، على ما يؤكد، هو حال معظم المستودعات والمخازن المنتشرة على الأراضي اللبنانية، التي لا يتقيّد 99 بالمئة منها وفقاً لشقية، بشروط السلامة والوقاية من الحرائق، بل هي مستودعات عشوائية، مع حيطان عشوائية ومداخل عشوائية، لا خرائط واضحة في بنائها عند الحاجة لتدخّل طارئ فيها، ما يكشف تجهيزها من دون الإستعانة بالخبراء أو تواصل مع الدفاع المدني.
والمخاطر لا تتوقف عند المستودعات. بل يعتبر الشقية أنّ معظم المباني السكنية وخصوصاً في المناطق الباردة تحتضن قنابل موقوتة متمثّلة في غرف حرّاقات المدافئ والمازوت والغاز التي تجهّز بمعظمها في الطوابق السفلية، بينما يجب أن توضع في غرف منفصلة عن المباني، حتى لا يتسبّب أي خلل تقني فيها بإشتعال المباني بأكملها، مشيراً إلى مسؤولية المهندسين والبلديات في تطبيق هذه المعايير عند تشييد أي مبنى أو مستودع وسواهما.
الحاجة إلى بيئة مؤاتية
وإنطلاقاً من تحديد هذه المخاطر وسواها، يخلص الشقية إلى التوضيح بأنّ عمل الدفاع المدني كي يكون ناجزاً يحتاج الى بيئة مؤاتية، لأنّ العنصر والتجهيزات المتوفرة هي عوامل مساعدة في إطفاء الحرائق، ولكن إذا لم تتوفر البيئة المساعدة تصبح المهمّة أصعب بكثير. ويشير إلى أن إستمرار إنعدام هذه البيئة بات يتفاقم، في ظل الظروف المالية الصعبة التي يعانيها الجهاز من ضغوطاته اليومية، خصوصاً أنّ أي حريق يشتعل حالياً يستنزف آخر مقدراته، من دون أن يكون هناك أي رؤية واضحة حول سبل التعويض عن هذه الإمكانيات المهدورة.
وعليه قد تبدو الإضاءة على واقع جهاز الدفاع المدني حالياً مفيدة في إثارة بعض القلق الذي قد يرفع من منسوب الحذر عند المواطنين. وهذه إشاعة مبرّرة للقلق، وخصوصاً إذا علمنا أنّ أي «إطفائية» أو «سيارة إنقاذ» يلحق بها الخراب، ستشكّل خسارة لا تعوّض في المرحلة الحالية. والحديث مع مدير إقليم زحلة، يكشف عن واقع غير مريح يمرّ به هذا الجهاز التابع لوزارة الداخلية عموماً. إذ يقول الشقية لـ»نداء الوطن» إنّ الدفاع المدني «هو جزء من الواقع، وإذا كانت الأزمة الإقتصادية قد خلّفت تداعياتها على كل الواقع الذي يعيشه اللبنانيون، فقد ألقت بثقلها أيضاً على الجهاز الذي يعنى مباشرة بسلامة الناس. فنحن جهاز تابع لوزارة الداخلية، ميزانيتنا لا تزال بالليرة التي فقدت قيمتها، وهي بالتالي لم تعد تلبّي الحاجات».
«من الموجود جود»
يؤكد الشقية بالمقابل أنّ الإدارة تقوم بواجباتها ولكن «من الموجود جود» وعلى قاعدة «على قدّ بساطك مدّ رجليك». ويضيف: «في السابق، كان أي عطل يطرأ على المعدّات أو الآليات لا يستغرق 24 ساعة لإصلاحه، أمّا حالياً فتجري معالجة الأمور وفقاً لأولوياتها وللإمكانيات المتوفرة. وعليه، فإنّ الصيانة تتوفر للأمور الضرورية جدّاً وفقط بآليات الاطفاء، أما آليات النقل والإسعاف فتراجعت أهمية التعامل مع أعطالها الى درجة ثانية».
عند الإسترسال في الحديث عن هذه التداعيات، يشرح الشقية بأنه في إقليم زحلة بات يمكن الحديث عن قسم مستحدث، يدعى «قسم الشحادة»، مهمّته كما يقول «تأمين الموارد التي تسمح بإصلاح وتأهيل المعدّات، وخصوصاً الإطفائيات التي تشكّل أولوية بالنسبة لنا، وهذا ما يجعلنا نطرق أبواب الجمعيات والبلديات وحتى المتموّلين للحصول على دعمها المباشر». هذا مع العلم أن المبادرة الفردية في كل إقليم باتت تلعب دوراً أساسياً في الحفاظ على صمود المؤسسة، وضمان تلبيتها واجباتها ولو بالحدّ الأدنى.
إنطلاقاً من هنا أسفرت محاولات إقليم زحلة للحصول على دعم خارجي، عن زيارة إستطلاع للواقع قام بها وفد من مقاطعة سان ماريتيم الفرنسية، خلص إلى تحديد الحاجيات الأساسية التي ستسعى المقاطعة لتوفيرها عبر بلدية زحلة، من خلال إتفاقية التعاون الموقّعة بين الطرفين.
وفي جردة لهذه الإحتياجات يتحدث الشقية عن حاجة للألبسة الواقية للعناصر، والمعدات اليدوية التي تستعمل في الأحراج، خراطيم مياه للآليات، ومادة الـFOAM المستخدمة في إطفاء المواد البترولية والبلاستيكية، ومعدات إنقاذ، سواء تلك التي يحتاجها العناصر في مهمات البحث، أو تلك التي تساعدهم على التعامل مع الظروف الصعبة.
غير أنّ هذه ليست كل الإحتياجات، ففي إقليم يعنى مباشرة بعمليات إنقاذ المواطنين العالقين بالثلوج شتاء، يعاني مركز زحلة من تدهور حال آليته المتخصّصة بهذا المجال. كما أن شكوى عناصره باتت يومية من أعطال طارئة على آليات الإطفاء والتنقّل والإسعاف.
واقع لمسته بعض البلديات لدى طلبها المساعدة الأسبوع الماضي لإطفاء الحرائق التي اشتعلت بمكبّاتها. ومع ذلك «تمكنّا من تلبية النداء ووزّعنا إمكانياتنا بين الضاحية والبقاع لإطفاء النيران التي اشتعلت في أكثر من مكان»، يؤكّد الشقية.
أصغر آلية عمرها 21 سنة
إلا أنّ ذلك لا يمكن أن يشيح النظر عن حاجة الجهاز لكل شيء تقريباً. واقع قد لا يكون محصوراً في إقليم زحلة، إذا علمنا أن آخر «إطفائية» تلقّتها مديرية الدفاع المدني كانت في سنة 2002، أي أن عمر أصغر آلية لديها حالياً هو 21 سنة، ما يعني أنّ معظم الآليات باتت معرّضة للخراب. هذا فضلاً عن العجز الذي بدأ تلمّسه بمجمل التجهيزات والمعدّات التي يحتاجها العناصر لتأدية مهامهم. ومن هنا يرفع الشقية القبعة لهؤلاء ويقول: «لولا إندفاعة هؤلاء وتفانيهم في تأدية واجبهم لما أكملنا عملنا، وخصوصاً المتطوّعين من بينهم».
ما ذكره الشقية من صعوبات جعلنا نتوقّف لتهنئته إذاً على إجتياز قطوع موجة الحرّ الأخيرة والتي سادها تخوّف من إشتعال النيران في البوَر والأحراج. إلّا أن الشقية يصرّ على عدم تحميل الطبيعة مسؤولية مثل هذه الحرائق، مشدّداً على أنّ أي حريق يشبّ في الطبيعة لا يمكن أن يندلع إلا بتدخّل بشري، فإمّا يكون مفتعلاً تماماً، أو يكون الناس قد خلّفوا مواد مشتعلة في بيئة حاضنة لها.
ويشدّد الشقية على أهمّية الوعي لدى الناس، عند حديثه عن لجوء الكثيرين إلى تهريب الحشرات والقوارض من باحات منازلهم عبر إشعال النيران فيها، إذ إنّ إشعال عود الكبريت بالنسبة لهؤلاء أسهل من تنظيف الأعشاب وأقلّ كلفة، ولكنه يستطرد ليقول «هؤلاء لا يقدّرون الأكلاف التي يكبّدونها للبيئة والطبيعة والتنوّع البيولوجي فيها، بالإضافة الى الأعباء التي يزيدونها على آليات الدفاع المدني، وموارده، والتي لو جرى حفظها ستسمح له بالتدخّل عند المخاطر الفعلية».
إنطلاقاً من هنا يقول الشقية: «إنّ التوعية مسألة أساسية جداً في تدارك الحرائق، ولكنّها ليست مسؤولية الدفاع المدني وحده، وإنما الأندية والجمعيات وغيرها من الهيئات، والمدارس والبلديات، التي لا بد أن يؤدّي تعاونها إلى تأمين بيئة تسمح بتدارك إستنزاف ما تبقّى من إمكانيات الدفاع المدني مرحلياً». أما الخطط الإستباقية، فيبدو أنّها تتطلّب أبعد من توفير الإمكانيات، صرامة في تطبيق أنظمة السلامة العامة وقوانينها في المؤسسات والمخازن، وحتى في المنازل، وفي العلاقة مع الطبيعة، تداركاً بالتأكيد لوقوع حوادث كتلك التي ألحقت وتلحق أضراراً مادية كبيرة، وتهدّد بمخاطرها سلامة البشر أحياناً، كتلك التي وقعت في الضاحية أو حتى في فاريا.