كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن،
بين زحلة و»الكلية الشرقية الباسيلية» أكثر من رابط تربوي. فالمدرسة الراسخة منذ 125 سنة بتاريخ المدينة التي يقارب عمرها الـ400 سنة، هي «مدرسة زحلة» التي خرّجت كوكبة كبيرة من شعراء وأدباء وسفراء ورجال صحافة وسياسة، رفعوا اسم مدينتهم وجعلوا منها منارة علم وثقافة وتنوع على صعيد لبنان عموماً.
هي مدرسة سعيد عقل، ميشال طراد، جوزف صايغ، فؤاد الترك، أنيس مسلم، جورج سكاف، فوزي المعلوف، خليل فرحات، أنيس خوري، ادمون صعب، جميل الوف، نقولا يواكيم معلم الأجيال بالكلية الشرقية، وغيرهم الكثير ممن حمّلوا الكلية الشرقية وإداراتها المتعاقبة عبر قرن وأكثر، مسؤولية الحفاظ على تميزها، إلى أن تلقفت الأمانة، إدارتها الحالية، بشخص رئيسها الأب شربل أوبا، الذي قرر في يوبيلها الـ125، أن يحوّلها مدرسة دامجة نموذجية، فكانت أول مدرسة دامجة معلنة على صعيد المدارس الخاصة في البقاع.
أراد الأب أوبا أن يكون الإعلان في حفل رسمي رعاه وزير التربية، ودعا إليه مختلف مدراء المدارس إلى جانب فاعليات المدينة، وجزء من هؤلاء هم أيضاً من خريجي الكلية. لم يكن هدفه أن يلقى التصفيق الحاد لمبادرته بالتأكيد، بل أن يحمل الإعلان عدوى هذا الإنتقال إلى المدارس الدامجة لباقي المدارس الخاصة في البقاع، خصوصاً أنّ الخطة الموضوعة بالنسبة لوزارة التربية تقضي بتحوّل جميع المدارس حتى سنة 2030 إلى مدارس دامجة. وبالتالي يقول الأب اوبا: «وضعنا أنفسنا في المواجهة لنخوض الاختبارات الأولى فنقدم تجربتنا لسائر المدارس، ونأمل أن تنتقل اليها العدوى قبل أن تجد نفسها ملزمة بالدمج خلال سنوات».
الخطوة ليست سهلة كما يؤكد الاب أوبا لـ»ندء الوطن» بل هي «متعبة ومكلفة». ولكن الأمر شكّل تحدياً أخذه على عاتقه منذ تسلم مهامه التربوية، لتستحق جهوده التربوية عموماً وسام راعي أبرشية زحلة الكاثوليكية، الذي أعلن تعيين الأب أوبا نائباً أسقفياً خاصاً للشؤون التربوية، وفقاً لقوانين وشرائع الكنائس الشرقية الكاثوليكية.
بالنسبة لأوبا كل واحد من التلاميذ يعاني صعوبات تعليمية. وهو شخصياً لا يخجل بأن يخبر عن صعوباته التي جعلته «يعيد صفين» بالمدرسة بين مرتين وثلاث مرات. وإذ يشير إلى أنه «في أيامنا كنا نكتفي بالإشارة إلى الولد الذي يعاني صعوبات بأنه «مش طالع من أمره درس»، يقول إنّه «في عصرنا الحالي أصبح لهذه الصعوبات تشخيص علمي، كمثل عُسر القراءة أو صعوبات في معالجة المعلومات أو اضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه، وغيرها. وهذا ما يسمح بالتعاطي مع كل حالة وفقاً لنوع الإضطرابات التعلمية التي يواجهها التلميذ، سواء أكانت تلك حركية، أو فكرية وذهنية. وبدلاً من أن نطلب من التلميذ أن يكيّف قدراته مع مستوى المدرسة، تصبح نقطة التحوّل في أن تبدأ المدرسة بتغيير طرقها التدريسية وتنوعها لتتكيف مع قدرات الطلاب مهما تمايزت طاقاتهم.
بالطبع ليس التعليم الدامج تجربة فريدة في لبنان، وهي قد أرسيت في مدارس مركزية خصوصاً وبات هناك أكثر من مئتي مدرسة تعتمد المناهج التربوية الدامجة وفقاً لوزارة التربية. وبحسب المعنيين في الوزارة فإنّه بعد عشرين سنة من تطبيق المناهج الدامجة هناك 13 طالباً يعانون صعوبات تمكنوا من إكمال دراستهم الثانوية.
إلا أن ما يستحق الإضاءة عليه في تجربة الكلية الشرقية، هو «الإعلان» عن التحوّل لمدرسة دامجة. وهذه وفقا للمصادر التربوية تتطلب جرأة، خصوصاً أنها إذا لم تكن حافزاً لتعميم التجربة على سائر المدارس، تحمل مخاطر تحول المدرسة إلى مدرسة متخصصة، وهذا ليس الهدف، وإنما الدمج.
فالدور الذي تلعبه المدرسة الدامجة مختلف. وهو يرتكز على رصد وتشخيص ومتابعة كافة أنواع اضطرابات التواصل باللغة المحكية والمكتوبة، وتحسين وتفعيل القدرات. وذلك يتطلب فريقاً متخصصاً يلعب دوراً بين الأهل والتلميذ والفريق الاكاديمي، بما يمكّن الطفل من إظهار قدراته القصوى.
وتنطلق هذه التجربة من قناعة بأنه من حق الطفل الذي يعاني من صعوبات أن يحظى بحظوظ متشابهة. إلا أنّ ذلك يتطلب أولاً إعتراف الأهل بإختلاف أولادهم وصعوباتهم، ومن ثم إحتضان المدرسة لهذا الإختلاف وسعيها لدمجه عبر وسائل دعم يقدمها إختصاصيون. وفي هذا الإطار إستعانت الكلية الشرقية بتسعة إختصاصيين بدءاً من العام الدراسي الماضي، يخوضون التحدي مع رئيس المدرسة عبر مكتب للدعم التربوي أنشئ في الكلية ويسميه أوبا «بوبو العين».
يقول الأب أوبا: «إننا في مجتمعنا نعيش عموماً الإختلاف. فنحن نختلف على كل شيء، وبالتالي علينا أن نقبل بهذا الاختلاف الذي لا يجب أن يلغي الآخر. ومن هنا يمكن النظر إلى البرامج الدامجة في الكلية الشرقية كخطوة أساسية في بناء ثقافة مجتمعية مبنية على تقبل الآخر».
كان شعار الإنتقال إلى مرحلة المدرسة الدامجة سؤال «ممكن؟»، بمعنى أنه هل من الممكن للوسائل التربوية المتخصصة أن تقلص من تداعيات الصعوبات التعلمية لدى الأطفال الذين يعانون الإضطرابات؟ أما بعد الممارسة يبدو الأب أوبا مقتنعاً بأنه «ممكن». وهو يشبّه إستخدام وسائل التغلب على الإضطرابات التعلمية بالمسلك الذي استُحدث بالمدرسة للمقعدين، حيث لم يعد المقعد بحاجة لمساعدة كي يتحرك بسهولة في المدرسة ويكمل تعليمه، ويكفي بالنسبة له أن نؤمن وسائل الدمج، ومن بعدها سيكتشف كل تلميذ قدراته التي تمكنه من بلوغ أهدافه.
الخطوات الأولى قد تكون متعثرة، ولكن «الشرقية» قررت أن تخطوها نيابة عن مدارس زحلة والبقاع، بانتظار أن تتحول كلها شريكة في مجتمع يسعى إلى الدمج على كافة المستويات.