كتب عيسى يحيى في نداء الوطن،
يتراجع الوجود المسيحي في المناطق والبلدات البقاعية المختلطة يوماً بعد آخر، ويمارس المسيحيون فيها شبه استقالة من الحياة السياسية العامة، يتخلّون عن أدوارهم التي رافقت وجودهم منذ عشرات السنين، ويتراجع حضورهم في البلديات التي كانت قائمة على التوازن الطائفي والمناصفة.
شكّل المسيحيون ركناً أساسياً في مدينة بعلبك ومحيطها، وبلغ عددهم مطلع عام 1935 ثلث سكان المدينة، ومع بداية الحرب الأهلية بدأ التراجع بالنزوح من المدينة إلى زحلة وبيروت، وباع العديد منهم منازلهم وأملاكهم، وترافق ذلك مع أعمال تعدٍّ واحتلال عددٍ من العقارات، ليصل عدد سكانها الحاليين اليوم إلى ما دون 20 عائلة. وفي وقتٍ تخلّى البعض عن أصوله وجذوره البعلبكية، لا يزال البعض الآخر مواظباً على ارتباطه، يزور المدينة والأقرباء كلّما سنحت الفرصة، وعند الاستحقاقات الإنتخابية، ورغم تدنّي نسبة المشاركة التي لا تتجاوز العشرين في المئة، تبقى لها نكهتها الخاصة التي تضفي على الانتخابات حيويةً ومنافسة.
واقع مدينة بعلبك الديموغرافي ينسحب على بعض البلدات البقاعية كالطيبة ومجدلون وعين بورضاي، التي نزح أبناؤها نهائياً خلال الحرب، فتراجع عدد سكانها من الطائفة المسيحية إلى مستويات متدنّية جداً، فيما تحافظ بلدات أخرى كدورس على الوجود المسيحي فيها، يقطن العديد منهم فيها صيفاً وشتاءً، ويواظب آخرون على زيارتها خلال الأعياد والعطل، لا تزال منازلهم وأراضيهم موجودة، ولا يزال عدد أعضائها في المجلس البلدي يتجانس مع ذلك الوجود، حتى باتت البلدة عنواناً للعيش المشترك، ولتناغم الطوائف والعائلات.
أكثر من استحقاق انتخابي نيابي وبلدي مرّ على تلك البلدات، كان لغياب الوجود المسيحي فيها دور في تبدّل التركيبة في بعض المجالس البلدية من ناحية، والاستئثار بالمقعدين النيابيين الماروني والكاثوليكي من ناحية أخرى، حتى جاء قانون الانتخابات النيابية القائم على النسبية ليستعيد صحّة التمثيل الماروني على مدى دورتين، مقابل تراجع عدد أعضاء المجالس البلدية ذات التركيبة الطائفية المشتركة، وقد فرضت الأعراف والتقاليد وفي غياب أي نصٍ قانوني، المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في تلك المجالس، وصولاً إلى التراجع رويداً، وليس انتهاءً باقتصار التمثيل على عضوٍ واحد، كما هو الحال في بلدية بعلبك اليوم.
مصادر محلية مسيحية تقول لـ»نداء الوطن»: «إنّ أزمةً حقيقية ستطل برأسها مطلع أيار عام 2024 إذا جرت الإنتخابات البلدية، تتمثّل بعدم وجود أعضاء مسيحيين يقبلون خوض المعركة الانتخابية في البلدات التي يتشاركون فيها البلديات مع المسلمين، إما مناصفة، وإما بزيادة عضو عنهم أو نقصان عضو، كما هو الحال في مدينة بعلبك وبلدات دورس ومجدلون والطيبة وغيرها، والزيادة في الأعضاء لم تعد موجودة، بل تتناقص استحقاقاً بعد آخر نتيجة هجرة أبنائها. فمدينة بعلبك التي كان عدد أعضاء البلدية المسيحيين فيها اثنين عام 2004، وقبلها عام 1998 حيث كاد يصل إلى 3 مرشحين، يقتصر تمثيلهم فيها منذ عام 2010 على عضو واحد، بعد تراجع مشاركتهم في الانتخابات، ونقل البعض منهم نفوسه إلى مناطق أخرى، وما بين السببين عدم جدوى التمثيل في ظل المحادل والتركيبة الديموغرافية»، وفق المصادر.
أما بلدة دورس التي تضمّ حالياً سبعة أعضاء مسيحيين مع رئيس المجلس من أصل 15 عضواً، فسيتعثّر حجم التمثيل فيها خلال الانتخابات المقبلة، لكون التعداد الطائفي بات قريباً للمثالثة بين السنّة والشيعة والمسيحيين، حيث يتمثّل السنّة بعضوين والشيعة بـ6 أعضاء، وتبقى الأمور رهن التحالفات المقبلة بزيادة عددهم أو نقصانه، كذلك الأمر في بلدية مجدلون حيث يتمثل المسيحيون بعضوين من أصل9، وبـ 8 من أصل 9 في بلدة الطيبة التي يقطن أعضاؤها والرئيس في بيروت.
وتلفت المصادر إلى أنّ هذه البلدات قد ينصهر المسيحيون فيها ضمن اتفاقيات تقضم حقوقهم إذا لم يبحث جدّياً في تمثيلهم بشكل صحيح، فغالبية القاطنين في بيروت لن يقدموا على الترشح حتى لو شاركوا في الانتخابات اقتراعاً، فالأزمة الإقتصادية وتكاليف التنقّل المرتفعة التي يتكبّدها البعض عن كل اجتماع للمجلس البلدي، إضافة إلى السوابق التي مرّت على التركيبة الحالية، والتحكّم بعدد الأعضاء وصولاً إلى اسم الرئيس، تدفع بهؤلاء إلى العزوف عن المشاركة ترشحاً، الأمر الذي سينعكس مزيداً من التراجع في التمثيل المسيحي في هذه المناطق، وانصهارهم في تحالفات تفرض عليهم شروطاً، ولا يفرضون فيها أسماء.
وتختم المصادر بالقول: «وإن كان الحديث لا يزال مبكراً لجهة حصول الانتخابات أو لا، لكنه أمرٌ يستدعي أن يكون في حسابات الأحزاب المعنية والناس أيضاً، كذلك الأمر قد تكون نتائج الانتخابات النيابية عامي 2018 و 2022 والجهة التي صوّت لها المسيحيون في تلك القرى والبلدات عاملاً إضافياً لتحجيم تمثيلهم ودورهم».