رصيف 22:”أنا حسن من البقاع… لا تعرفونني لا في السلم ولا في الحرب”

حسن سنديان،

لم أكن أعلم أن قصصنا سيُكتفى منها بخبر عاجل مقتضب في جملة خبرية بسيطة؛ فهنا البقاع المهمّش في السلم وفي الحرب.

دائماً كنت أختار الانطلاق من بيروت لزيارة العائلة في البقاع، عند الساعة الخامسة مساءً، ليكون متزامناً مع غروب الشمس على طريق ضهر البيدر. أنتظر في “الفان” حتى اكتمال عدد الركاب، عند جسر المطار، وأتناول فنجان القهوة على الطريق، فهو تقليد معروف لدى كل الركاب البقاعيين والبعلبكيين.

هنا البقاع المهمّش في السلم وفي الحرب.

في الطريق إلى البقاع، أضع سماعات الهاتف كي أسمع الأغاني التي أحبّ، وأتحرّر من وديع الشيخ، الرابض فوق صدر كُل من يركب “الفان”. في الطريق أيضاً، أفكّر مليّاً: ماذا سأرسل من أفكار ومواضيع صحافية تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، والكثير منها موجود في الأحاديث اليومية بين الركاب؟ ما عليّ سوى طرح المشكلة في الفان كي أسمعها من زوايا مختلفة وأشخاص مختلفين، كلّ حسب منطقته، مع الجملة الشهيرة: “الله يساعد يا عمّي لا بالسُلم ولا بالحَرب حدا مطلّع فينا”.

خبر عاجل يلخّص موتنا

برغم هذا التهميش، إلا أنني لم أتوقّع في يوم من الأيام أنه ستتم إبادتنا بصمت مع بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، فتعجز الكلمات التي كانت تبحث عن زاوية لقصّ مشكلاتنا في وقت السلم، عن وصف المجازر التي نعيشها في زمن الحرب في تلك المناطق البعيدة عن الأنظار وعيون الصحافيين والمؤسسات التي تكتفي بقدر قليل من مشاهد الضربات الإسرائيلية.

في البقاع، دائماً كنّا على يقين تام بأننا لن نأخذ حقنا في الحياة ضمن الدولة، ولكن الذي لم أكن أعلمه هو أننا لن نأخذ حقنا في الموت أيضاً، ولا حتى في رواية قصصنا؛ كيف متنا؟ أو حتى كيف “صمدنا” أو “نصمد”؟

لم أكن أعلم أن قصصنا سيُكتفى منها بخبر عاجل مقتضب في جملة خبرية بسيطة: “مجزرة في منطقة كذا في البقاع”، ثم تُرفق بعدد الشهداء والجرحى وصور من المباني المدمرة. صورة أو فيديو سريع مأخوذ من مواقع التواصل، يمرّ سريعاً، وتنتهي القصة بكل بساطة وتمرّ مرور الكرام. لم أكن أعلم أننا سنموت بهذا الصمت، ونكتفي بموجة من الاتصالات للاطمئنان على أهلنا الذين هربوا إلى القرى المجاورة، ورفضوا اللجوء إلى شوارع بيروت، فاختاروا مدارس أطفالهم للنزوح إليها.

كنت أستمع إلى أولاد ضيعتي، علي النهري، إلى نسائها وشيوخها ورجالها وهم يتحدثون دائماً عن الأرض، وأفكر بيني وبين نفسي: لماذا هذا الهاجس الدائم؟ ولماذا الأرض هي الملجأ؟ مع الوقت، كبرت وفهمت أن الأرض هي ما تبقّى لهم، أو هي كُل ما يملكون. أدركت أنهم “طُفّار”. أننا “طُفّار”. لا أحد يسأل عنّا. صحيح أننا نعيش في دولة مزعومة، لكن على الورق. لا، نعيش في دولة ولكن على هامش كُلّ شيء.

لقد أخرجونا عن القانون، بسياساتهم الناقصة. جعلونا نحن أولاد البقاع، مطلوبين، ولكن لا نعلم لماذا. كُل هذا كان يتراكم ويراكم مدى بعدي عن “الدولة”. أذكر كيف كان السياسيون يأتوننا، ومن كُل الأحزاب، أحزاب “الصمود”، وأحزاب “التحرّر”، وأحزاب اليمين واليسار، وصولاً إلى الأحزاب “العائلية”؛ يبتسمون ويعدوننا بأنهم سيمسكون بيدنا ويعيدوننا إلى الحضن الكبير، إلى الدولة الجنّة التي سيبنونها للبقاعيين، لكي يلتحقوا بغيرهم من اللبنانيين الذين كانوا إلى وقت قريب ينعمون بالحد الأدنى من الحقوق.

دائماً كنّا على يقين تام بأننا لن نأخذ حقنا في الحياة ضمن الدولة، ولكن الذي لم أكن أعلمه هو أننا لن نأخذ حقنا في الموت أيضاً، ولا حتى في رواية قصصنا؛ كيف متنا؟ أو حتى كيف “صمدنا” أو “نصمد”؟

لم أكن أعلم أن آليات وجرافات المؤسسات الحكومية ستأخذ أياماً كي تأتي لرفع الأنقاض عن جثثنا المدفونة تحت ركام الحقد الإسرائيلي الذي لم يترك تقريباً منطقةً في البقاع الشمالي إلا واستهدفها. بعض هذه المناطق أخذت مساحةً لدى الدولة ولدى المحطات التلفزيونية، حين قام الجيش بهدم بيت “أبو سلّة” تاجر المخدرات، أكثر مما تأخذ من الاهتمام حين صارت ركاماً نتيجة العدوان. كان “أبو سلّة” مطلوباً منذ زمن للقضاء، لكن لم يأتِ القرار السياسي بالقبض عليه، سوى في الإسراع بهدم منزله ربما، فكان الأمر أسرع من رفع الأنقاض عن أرواح أطفالنا، ومن بقوا تحت الركام. أملنا في الحياة والنجاة مربوط بسواعدنا، ولا شيء غير سواعدنا.

التمييز حتى في تحذيرات الإخلاء

حتى الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، يميّزنا عن غيرنا من باقي المناطق في الجنوب والضاحية في تحذيرات الإخلاء قبل الاستهداف.

نريد للعالم أن يسمعنا. العالم؟ نريد للّبنانيين أن يسمعونا قبل العالم. نحن هنا، هل تروننا نلوّح بأيدينا من تحت ركام المنازل في الكرك؟ منذ الاستقلال وإلى اليوم نحاول أن نقول إننا هنا. نحاول اليوم أن نقول إننا نُقتل. تذكّرونا

وذلك عندما يكتب على حسابه في منصة “x”، تحذيراً للإخلاء: “من أجل سلامتكم، عليكم الابتعاد لمسافة 500 متر عن هذه الأبنية”، تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ونفتح الصور فلا نجد فيها أي شيء يتعلق بمناطقنا، ونعلم أنه كاذب ويخفي خلفه رغبةً كبيرةً في قتلنا. لكن بالرغم من ذلك فنحن نحتاج إلى ربع ساعة فقط وأقلّ حتى نستطيع أن نلتقط فيها ألعاب أطفالنا، وما تبقّى من مدّخراتنا إن وُجدت، وبعض الثياب لكي لا نتعرّى في العراء.

Exit mobile version