خمسة عشر عاماً مرّت على وفاة إحدى أنبل الشخصيات التي أنجبها هذا الشرق. مات عبدو مرتضى الحسيني، وحكايته الكاملة لم ترو بعد. «ناسك الكتب» أفنى حياته في النضال من اجل الحرية والمساواة والفكر والحوار وجمع الكتب حتى صار صاحب أكبر مكتبة شخصية في الشرق الأوسط. توفي عبدو ولم يحقق حلمه بتحويل مكتبته الى مكتبة عامة تحوي قاعة للحوار، لتخرج الأفكار من صفحات الكتب الى ميادين العقول.
ولد عبدو عام ١٩١٨، وشرع وهو ابن سبع سنوات بجمع الكتب. أضاف إلى مصروفه اليومي ما استطاع جمعه من بعض الأعمال البسيطة حتى يضيف إلى مكتبة كبرى بدأت بالتشكّل.
حاز شهادات عدة من الجامعة اليسوعية ولكن بعلبك ظلّت تناديه، فعمل استاذاً واستمرّ برعاية وتنمية مكتبته.
توسّعت علاقاته المحلية والدولية، مما أسهم في تنوّع محتوى المكتبة من ناحية اللغات والأنواع الأدبية وبعض المخطوطات النادرة.
إن كان للكاتب كارلوس زافون من مكان استوحى منه شكل ورائحة ومحتوى رائعته «مقبرة الكتب المنسية»، لما وجدت أقرب اليها من مكتبة عبدو. آلاف مؤلفة من الكتب المرصوفة في دهاليز تدعوك للغرق المفيد.
ولأن الثقافة فعل حيّ، كان عبدو مناضلاً من أجل حقوق العمّال، فسجن. ترشح للمجلس النيابي كمسار ممكن للنضال والتغيير.
عرض عليه أكثر من مرّة أن يبيع هذه المكتبة على أن تنقل خارج بعلبك، ولكنه رفض كما لو أن المكتبة أبت أن تفارق هذه المدينة. أغدقت عليه العديد من الوعود الرسمية للحفاظ على المكتبة، وعود جوفاء لم تكن
حتى حبراً على ورق.
تعهّد أبناؤه بحمل هذا الإرث الثقيل، وزوار المكتبة من الطلاّب والباحثين يستقبلهم ابنه جهاد في مرسمه الذي انتقل إلى إحدى غرف المكتبة، كما تستمر ابنته ليندا في حمل إرث والدها.
صحيح أن في بعلبك مدرسة تحمل اسمه، وهذا جميل، وصحيح أيضاً أن ندوات عديدة أقيمة لتكريمه، وهذا مهمّ، إلاّ أن تكريم عبدو يكون بتكريم مكتبته وفكرته: تحويل مكتبته إلى مكتبة عامة تضمّ قاعة للحوار.
عبدو مرتضى الحسيني توفي عام ٢٠٠٧ وفي قلبه حلم أن تجد كتبه مكتبة تحتضنها ليستفاد منها.
في مفارقة لافتة، غادرنا عبدو بعد أيّام من إنفجار سيارة مفخخة في بغداد، محوّلة شارع المتنبي، شارع الكتب والثقافة والمثقفين إلى رماد من حروف ودماء.
المشهد المهيمن اليوم على واقع هذا الشرق، أقل ما يقال فيه إنّه مثير للقلق. من يكتب وما الذي يُكتب؟ هل نطبع؟ ولأي قارئ؟
كتب تُمنع، مكتبات تحرق، دور نشر يضيّق عليها، قارئ يتعرض للتغييب والتغريب.
لم يكن ينقص هذا المشهد حتى تكتمل دائرة اليأس إلاّ موجات العقول السود والأيدي القابضة على كل أدوات تعطيل المعرفة ونشر الجهل.
تموت الكتب بالإهمال وبالمنع وبالحرق، ولكنها تموت أيضاً عندما نتوقف عن قراءتها وعن تشارك محتواها والنقاش في أفكارها. للأسف هذا عصر المعلومات وليس عصر المعرفة.
ولكن، لولا الأمل لما بقي في الدنيا رجاء، لولا صفحات كتاب يقلبها شارٍ على رصيف شارع المتنبي في بغداد، ولولا مسودةٍ يراجعها ناشرٌ في قاهرة المعزّ، ولولا جهدٍ مستمرٍ لمثقفٍ فاعلٍ في بيروت ينقل الكلام من عصر الورق إلى الميادين الرقمية الواسعة.
لولا هؤلاء لانقطع الرجاء، ولولا من سبقهم في إدراك أهمية الكتابة والقراءة وجدلية المفيد والمستفيد بالمعرفة، لما استيقنا أن لا بدّ لليل أن ينجلي، حرفاً حرفاً، كلمةً كلمةً، كتاباً كتاباً ومكتبة ترفد أخرى.
الواجب واجبان اليوم، استكمال حلم عبدو مرتضى الحسيني من خلال مكتبته، وواجب خلق مساحات للحوار من خلال فكرته الخالدة «الإنسان يساوي معرفة».