قال الله تعالى في كتابه العزيز: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} صدق الله العظيم.
أيّام معدودات ويحطّ شهر رمضان رحاله بيننا؛ شهر ننتظره بفارغ الصّبر، من عام إلى عام، وندعو الله أن يبلّغنا إيّاه، لذلك نستعدّ لاستقباله استقبال الفرحين، كمن ينتظر عزيزاً طال غيابه، يشدّنا إليه الشّوق والحنين، ليملأ العبق الزاكي نفوسنا وأرواحنا، ويجدّد حياتنا، يجوهرها، ويضفي عليها طهراً وصفاءً.
شهرٌ أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم فضله عندما قال: «أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرّحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل اللّيالي، وساعاته أفضل السّاعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله…»، «فإنَّ الشَّقيَّ من حرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم…».
ولقد أراد الله سبحانه من هذا الشَّهر أن يكون محطّة سنويَّة لنتزوَّد بمعانيه ودوره، وإن كان من الصّعب أن نحيط بكلِّ معاني هذا الشَّهر المبارك، بمفاهيمه وفلسفته وآثاره… ونبقى قاصرين عن الإحاطة التامّة به، فنحن في كلّ موسم جديد، وعلى طول العمر، تظلّ تتكشّف لنا منه معانٍ وبركات متجدّدة ونابضة بالحياة.
لكنّنا سنعرض لثلاثة من الآثار والنّتائج المتوخّاة من هذه الفريضة، إن أَحسنّا الاستفادة منها:
محطّة لبناء الذّات
على مستوى الذّات، فإنَّ شهر رمضان هو شهرٌ لبناء الإنسان الحرّ الّذي يمتلك قرار نفسه، فهو يقرِّر لها، ويتحكَّم بمسارها، ويحدِّد لها متى تأكل وتشرب وتمارس لذَّاتها وإلى أين تسير وكيف… وهذا بخلاف النظريّة التربويّة الّتي باتت تسود في واقعنا، والتي ترى في الاستسلام لسطوة الغريزة حريّة، وأنّك كلَّما سعيت لتلبية شهواتك تكون حرّاً، وأنّ الدّين عندما يدعوك إلى ضبطها، فإنّه يقيِّد حرّيتك ويخلّ بها. ولكنَّ الحريَّة، ليست في أن تسعى وراء رغباتك وملذَّاتك، أو أن تكون أسيراً لها وتكون هي من تقودك، الحريَّة أن تنعتق منها، أن تتفوَّق عليها، أن تتحكَّم بها، أن تضبطها.
للأسف، لقد بتنا نعيش في عصرٍ وصل اللُّهاث خلف الغرائز والشَّهوات إلى مستويات غير مسبوقة، وما هو إلا نتيجة عبوديَّة لها، وهو تأليهٌ من نوعٍ آخر: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}.
إنَّ الصيام في شهر رمضان يوفِّر لك الحريَّة والانعتاق من أسر الشَّهوات، وضبط الملذَّات، وعدم ارتكاب المحرَّمات، كي تقوى إرادتك، وتمسك بقرار نفسك وتلجمها في أفضل ورشة تدريب تدوم لباقي أيّام السنة. وإلى هذا أشار الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
التّربية الرّوحيّة
وفي مقابل الاهتمام بضبط الغرائز وتربية الجسد، ركَّز شهر رمضان على الرّوح، وهنا نأتي إلى المستوى الثاني، وهو مستوى التربية الروحيّة: فقد شاء الله تعالى أن يكون شهر رمضان شهراً لبناء الرّوح، ولذلك هو شهر العبادة، وشهر تلاوة القرآن والدّعاء والذّكر والاستغفار وإحياء اللّيل بالعبادة بالتهجّد والذّكر… وقد أراده الله أن يكون شهر عبادة كيفما تحرّك الإنسان؛ فاحتسب الأنفاس تسابيح، والنّوم فيه عبادة.
وهذا ما أظهر فضله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «من تطوَّع فيه بصلاة، كُتبت له براءة من النّار، ومن أدّى فيه فرضاً، كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور، ومَن أكثر فيه من الصّلاة عليّ، ثقَّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آيةً من القرآن، كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشّهور». هو شهر ينادي فيه ربّ العزّة جبرائيل (ع): «يا جبريل، اهبط إلى الأرض، فغلّ مردة الشياطين، كي لا يفسدوا على عبادي صومهم وقيامهم».
إذاً هو شهر العبادة وتربية الرّوح بامتياز.
وهي فرصة لنا، أيّها الأحبّة، لتعزيز علاقتنا بالله، لنجدِّدها ونعطيها الحيويّة والفعاليّة، بأن نصلّي كأنها آخر صلاة نؤدّيها ين يدي الله، ونصوم كأنّه آخر صيام نقوم به، ونقرأ القرآن بتدبّر ووعي، وأن نذكر الله بقلوبنا لا بألسنتنا فقط، ونتوب إليه توبةً لا نحتاج بعدها إلى توبة، وهذا إنما يعني تطهّراً وتزكية، كأرقى ما يكون التطهّر والتزوّد والتزكية والاستعداد للقاء الله.
شهر البذل والعطاء
ونصل إلى المستوى الثّالث والأخير، وهو المستوى الاجتماعيّ، حيث مسؤوليتنا كبيرة لا سيما في هذه الظروف المعيشية القاسية التي نعيشها في هذا البلد، فمن الضروري والواجب أن نضع نصب أعيننا وفي أولويات عملنا مساعدة الفقراء والضعفاء والأيتام أو الذين تركوا أعمالهم بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية أو الذين لا تكفيهم رواتبهم بفعل الغلاء الفاحش وجشع التجار الذين لا بد أن يتخففوا من ثقل أنانياتهم التي تلحق أكبر الأذى بأغلبية الناس..
إن هذا الشهر هو شهر الفقراء والأيتام، وشهر الزكاة وصلة الرّحم، وشهر حسن الخلق وإدخال السّرور على قلوب الكبار والصّغار ومن هم في القبور.
ففي هذا الشّهر، لا بد من أن ينعم الفقراء والمساكين والأيتام بالعطايا والبذل والاحتضان أكثر مما ينعمون في بقيّة الشهور، وأن تنمو في المجتمع إرادة الرّغبة والتّواصل مع الأرحام، وتتعزّز قيم المحبّة والرّحمة للصّغار، والتوقير للكبار، مما حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه»، «وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم…»، «وتحنّنوا على أيتام النّاس يتحنَّن على أيتامكم…».
هذه كانت خطّة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في استقبال شهر رمضان، ونحن نستعيد هذه المعاني في كلّ سنة، لتكون ورشة تربوية اجتماعيّة، ننعتق فيها من أسر أنانيّاتنا وحدود ذواتنا، فتفيض فيه النّفوس بالبذل والعطاء والصّفاء والتسامح والسموّ الإنساني.
ظاهرة مرفوضة
هي منظومة تربويّة متكاملة للفرد وللمجتمع، طرحها الإسلام لتكون بمثابة محطّة تتكرَّر بشكل سنويّ للتأهيل وإعادة صوغ للذّات وترميم العلاقات وصون المجتمع. لنتذكّر دوماً أنّ شهر رمضان هو شهر الحدّ من الطّعام والشّراب وليس العكس، وهو شهر اغتنام الوقت وليس تضييعه، هو شهر التّهدئة وليس التعصيب والانفعال، هو شهر الانفتاح والانشراح وليس الانغلاق والانكفاء