سماحة الشيخ سليم سوسان،
الحمد لله الذي خلق الخلقَ بقدرته، ومَنَّ على من شاء بطاعته، وخذلَ من شاء بحكمته، شرَّف هذه الأمة وخصَّها بصيام شهر رمضان، فمن صامه وقامه ايمانا واحتسابا غُفرت ذنوبه العظام وصلى الله وسلم على سيدنا محمد أَجْوَد النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، خير من صلى وصام وتصدق وقام،القائل:(مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِماًٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين:
وبعد : أطل علينا شهر رمضان المبارك، شهر التقوى والإيمان، شهرالجود والإحسان، شهر الرحمة والمواساة، شهر الإنفاق والصدقات، شهر البر والعطاء، شهر تُغلق فيه أبواب النيران وتُفتح أبواب الجنان وتُصفد الشياطين، فعلينا أن نحافظ على حرمته ونتزود منه لآخرتنا، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} (البقرة)
الصيام أعظم ما يزوّد العبد من التقوى التي هي ثمرة العبادة وزبدتها وهي الغاية التي شرع الله تعالى الصيام من أجلها فالتقوى -فى جوهرها- تقوم على استحضار القلب لعظمة الله تعالى واستشعار هيبته وجلاله وكبريائه، والخشية لمقامه، والخوف من حسابه وعقابه.
قال إبن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: التقوى حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالأمر وتصديقاً بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده، كما قال التابعي الجليل طَلْقُ بنُ حَبِيْبٍ إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: «العَمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ، عَلَى نُوْرٍ مِنَ اللهِ، رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ، وَتَرْكِ مَعَاصِي اللهِ، عَلَى نُوْرٍ مِنَ اللهِ، مَخَافَةَ عَذَابِ اللهِ». وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى.
فالصوم إذاً مدرسة لتعليم التقوى،التي توقظ فيك ملكة المراقبة لله تعالى تراقب نفسك بنفسك دون أن يأمرك أحد وكأنك تصل الى درجة الاحسان ليتحقق فيك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «((أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّهُ يراكَ)).
كما ان التقوى قد جعلها الله تعالى من أعظم أسباب البركة فى الأرزاق ومن أعظم أسباب تفريج الكربات، وتكفير السيئات، وزيادة الحسنات، والخروج من المضائق والأزمات.
أيها الأخوة والأبناء : رمضان شهرالجود والإحسان، شهر التواصل والتكافل، شهر تغمر فيه الرحمة قلوب المؤمنين، وتجود فيه بالعطاء أيدي المحسنين.، فهو موسم عظيم للصدقة وإيصال البر الى الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، وخاصة في هذه الأيام التي يشهد بلدنا فيها انهيارا ماليا واقتصاديا واجتماعيا، فمساعدة هؤلاء ومسامحتهم والعفو عن بعض الحقوق المستحقة عليهم، او تأجيل تحصيلها او بعضها تضامنا معهم ورحمة بهم في هذا الظرف المالي الحرج والأيام العجاف لدليل على الرحمة الكامنة في القلب والايمان الراسخ في الصدر، هؤلاء الرحماء بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم برحمة الله تعالى (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)رواه ابو داود والترمذي، فكما أنهم يَرحمون يُرحمون،فحينما حصلت منهم رحمة للخلق الذين يستحقون الرحمة فجزاؤهم أن يرحمهم الله تعالى لأن الجزاء من جنس العمل.
أيها الأخوة والأبناء: شهر رمضان شهر يتضاعف فيه ثواب الصدقة فهو من المواسم العظيمة التي ينبغي للمسلم أن يتحرى فيها الانفاق في سبيل الخير ووجوه البر بقدر الامكان، تأسياً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُنفق في رمضان ما لا يُنفق في غيره، كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ… كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. كان أسخاهم بالبذل والإنفاق والعطاء.
أيها الصائم: أنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً. روى البخارى ومسلم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ:((إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)).
عَنْ مَالِك : قَوْله (قَالَ اللَّه أَنْفِقْ يَا اِبْن آدَم أُنْفِقْ عَلَيْك).
إذن: لو أنفقت في وجوه الخير لتولى الإنفاق عليك من لم تنفد خزائنه، أنفق ابتغاء وجه الله تعالى، فالصدقة برهان على صدق إيمانك وتقواك والله سبحانه وتعالى وعد في كتابه أن ما انفقه الانسان فإن الله تعالى يُخلفه عليه ويُعطيه خُلفاً عنه وهُوَ مَعْنَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يَخْلُفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ 39}سبأ. فَيَتَضَمَّن الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر وَالتَّبْشِير بِالْخُلْفِ مِنْ فَضْل اللَّه تَعَالَى. فأي نفقة واجبة، أو مستحبة، على قريب، أو جار، أو مسكين، أو يتيم، أو غير ذلك، فالله تعالى يُخْلِفُهُ فلا تتوهموا أن الإنفاق مما يُنقص الرزق، بل وعد الله تعالى بِالْخُلْفِ للمُنفق، فهو جلَّ جلاله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أما ما أُنفِقْ في معصية فلا خلاف أنه غير مُثاب عليه ولا مخلوف له.
أيها الأخوة والأبناء:
معلوم أن الصدقة وإخرج الزكاة في رمضان لها منزلة خاصة عند المسلمين،وقد اعتاد المسلمون في كثير من البلاد العربية والإسلامية أن يُخرجوا زكاة أموالهم،و الصدقات الواجبة عليهم في شهر رمضان المبارك من كل عام، وهي ولا شك عادة طيبة، طمعا في مضاعفة الأجر والثواب لفضل الزمان، فالعبادة تفضل في الأزمنة الفاضلة على غيرها، ولأنه جلَّ جلاله وضع رمضان لإفاضة الرحمة على عباده أضعاف ما يُفيضها في غيره، فكانت الصدقة فيه أكثر ثوابا منها في غيره، والزكاة في رمضان أفضلُ من الصدقةِ في غيره كما ذكَر ذلك غيرُ واحد من أهل العلم.
ويتضاعف الثواب حينما تخُصُّ بقسم من الزكاة المُتعفِّفين عن المسألة من عائلتك والذين يغفل أكثر الناس عنهم فالإخلاص في العطاء يجب ان يكون من غير استعلاء ولا منّة ليحوز المنفق على الأجر والثواب والقبول عند الله تعالى.
و اعلم أخي المسلم أن الزكاة ليست صدقة يُخير المكلف بأدائها، ولا نافلة يمُنّ مخرجها على الناس بإخراجها بل هي عبادة مالية واجبة، تكفّر الخطايا وتدفع البلاء وتطهّر النفس من الشح والبخل وتُزكيها وتنمي الروح الاجتماعية بين الأفراد،فهي مصدر قوي لإشاعة الطمأنينة والهدوء، ووسيلة لمحاربة مشكلات المجتمع المتمثلة في الفقر والبطالة والأنانية.
أيها الأخوة والأبناء: فكما ان شهر رمضان شهرالجود والإحسان،والزكاة والصدقة والعطاء فهو شهر الذكر والقرآن، شهر المغفرة والقيام، ففي شهر رمضان يجتمع الصوم والقرآن فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان يشفع له القرآن لقيامه، ويشفع له الصيام لصيامه.
قال صلى الله عليه وسلم(الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: «فَيُشَفَّعَانِ») رواه احمد. فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته.
مطلوب من كل مسلم ان يجتهد في رمضان في تلاوة القرآن وأن ينظر اليه باعتباره شهراً للجد والاجتهاد وتطهير القلوب من الفساد.
فأقبلوا على كتاب الله في شهر رمضان وغيره تلاوة وتدبرا والتزاما بأحكامه وسيرا على هدايته ومنهاجه، واكثروا من حفظه وتدبر معانيه وفهمه في شهر القرآن.لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم((إقْرَؤوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ))رواه مسلم.
اذن : القرآن نور ورحمة وهداية وشفاء وفرقان وتبيان لكل شيء وبرهان… فهل يستشعر المسلم كل هذه المعاني عندما يقرأ القرآن الكريم؟؟؟
فينبغي علينا ان يكون لنا من شهرنا هذا وفريضتنا ما يكون له اثر ممتد، وتغيير حقيقي يتناول الانسان في اعماقه، فيُعد قلبه وفكره وجوارحه للتقوى والخشية من الله تعالى فالتقوى ثمرة الصيام التي توقظ القلب ليؤدي هذه الفريضة طاعة لله وايثارا لرضاه.
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((قَالَ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) رواه البخاري
و قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه البخاري.
فإذا صام المسلم رمضان ً إيماناً بالله ورسوله وتصديقاً بفرضية الصيام وما أعد الله تعالى للصائمين من جزيل الأجر. واحتساباً. إخلاصاً لوجه الله تعالى، لا رياء ولا تقليداً، يصومه طيبة به نفسه غير كاره لصيامه، ولا مستثقل لأيامه، بل يغتنم طول أيامه لعِظم الثواب.، غفر الله له بصيامه الصغائر والخطيئات التي اقترفها، إذا اجتنب كبائر الذنوب، وتاب مما وقع فيه منها.
اللهم اجعلنا ممن يصومون ويقومون رمضان ايمانا واحتسابا وينالون بالصيام التقوى والعتق من النار.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الهدى، وقلوبهم على التقوى، وأنفسهم على المحبة، وعزائمهم على الخير والبر والتوبة، وبارك لنا في شهر رمضان وأعنا فيه على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان وتلاوة القرآن، اللهم اجعل حظنا من شهر رمضان القبول والرحمة والمغفرة والعتق من النار بفضلك وكرمك يا عزيز ياغفار.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .