نفايات اللاجئين والدولار
خلال الاجتماع لوح زغيب باحتمال التوقف عن استقبال نفايات النازحين كحد أدنى، ما لم يتم التسديد بـ”الفريش دولار” كلفة معالجة نسبة 40 بالمئة من مجمل النفايات المرسلة إلى المطمر الصحي، وهي الكمية المقدرة للنفايات الآتية من تجمعات النازحين. كان واضحا أن كلام زغيب جاء في إطار الضغط على الهيئات الداعمة التي طالبها بتسديد كلفة معالجة نحو مئة طن، من أصل 265 طناً تعالج يوميًا في مطمر زحلة الصحي. قد يسهم ذلك في تغطية جزء من الكلفة التشغيلية العامة للمطمر، بما يحافظ على استدامة مرفق جرت إدارته حتى الآن بعناية تامة، على رغم الصعوبات المالية التي تعترض مرافق الخدمات، بسبب انهيار سعر العملة الوطنية وهامش الفرق الكبير بين مرحلة الانفاق ومرحلة استيفاء الرسوم.
المشكلة في مكان آخر
إلا أن زغيب وسائر رؤساء البلديات الذين حضروا الاجتماع يدركون تمامًا أن المشكلة الفعلية ليس في نفايات السوريين، بل في انهيار سعر العملة الوطنية، مقابل استقرار مداخيل البلديات على حالها حتى بالنسبة لجبايات القيمة التأجيرية التي بوشر بتحصيلها لهذا العام.
وهكذا تصبح المعادلة الحسابية على الشكل التالي: تتقاضى بلدية زحلة 13 دولاراً عن معالجة كل طن من النفايات على السعر الرسمي للدولار، أي 1500 ليرة، ما يجعلها تجبي عمليًا 20 الف ليرة. فيما الكلفة التشغيلية للمطمر بعد زيادة قدراته لاستيعاب الكمية المضافة من النفايات هي 22 دولارا على سعر صرف السوق الموازية، أي نحو 660 ألف ليرة.
ومجمل ما تتقاضاه بلدية زحلة من البلديات لن يكون كافيًا لتسديد ثمن أربعة إطارات لواحد من الجرارات المستخدمة في عملية الطمر، ما يجعل خدمتها للقضاء مجانية.
تتجلى خطورة الحديث في الوصول إلى إقفال المطمر أو الحد من قدرته التشغيلية، كونه يأتي على حساب حقوق أخرى بإنماء لزحلة جرت فرملتها حاليًا، بعدما كانت المدينة تسير بمشاريع تنعش الحركة الإنمائية قبل سنة 2018.
والأخطر أن سبب الأزمة الذي يواجه المطمر الصحي يهدد ما اعتبره أهالي المدينة امتيازات يفاخرون بها: تغذية كهربائية لم تكن تعرف تقنينًا سابقًا. مياه نظيفة. ومعالجة صحيحة للصرف الصحي. هذه أمور، وإن بدت بديهية، إلا أن غيابها في سائر البلدات الأخرى، جعلها قيمة مضافة لا تتمتع بها حتى مدن لبنان الكبرى.
لكن “صرخة النفايات” ليست الوحيدة التي تُسمع في زحلة. فقد أعقبها بعد أيام صرخة شركة كهرباء زحلة عبر بيان حمل تحذيرات من وقف التغذية كليًا. وفُسر كمحاولة لامتصاص بعض الغضب الذي بدأ يلوح في المجتمع الزحلي، بعدما فاقت قيمة بعض الفواتير الخيال أحيانًا. حتى أن فواتير الكهرباء المرسلة إلى البلديات دفعت ببعض مجالسها، ومن بينها بلدية زحلة، إلى اتخاذ قرار التقنين في الإنارة العامة، وحصرها بالساعات الأولى من الليل فقط.
اكتشف الزحليون أنهم جزء من الأزمة العامة التي يعيشها لبنان، بعدما اعتقد كثيرون أنهم قادرون على النأي بمدينتهم عنها. وبقيت هذه العقلية سائدة حتى ما بعد ثورة 17 تشرين. وعندما تساءل بعضهم عن الأسباب التي تجعل مدينة زحلة لا تنتفض على الواقع كما سائر لبنان، جاءت الإجابة بأن واقع الإنماء في زحلة ليس كسائر لبنان. وهذا ما يترك انطباعا بتقدم أهل المدينة، ليس فقط على محيطهم، بل على الدولة في خدماتها.
ووقعت أزمة البنزين والمصارف والمازوت وانهارت الليرة اللبنانية، فأدرك الزحليون فعلا أنه إذا لم يكن لبنان بخير فهم أيضًا لن يكونوا بخير. وتوفر الخدمات التي قتلت حماسهم لـ”ثورة” 17 تشرين، مهددة بالأزمة الحالية. لذا تكون خسارة زحلة أكبر من خسارة المدن التي تقدمت عليها في الماضي.
خسارة زحلة لا تعني أهالي المدينة وحدهم، بل أهل القضاء أيضًا. فشركة كهرباء زحلة تغذي 16 قرية إلى جانب المدينة. ومطمر زحلة الصحي يعالج نفايات 26 بلدة إلى جانب نفايات المدينة، ما يجعل المعادلة في قرى القضاء: إذا لم تكن زحلة بخير لن يكون القضاء بخير أيضا.
غير أن ما كشفه زغيب يأتي على أبواب انتخابات بلدية ضاغطة، تجري هذه المرة في ظل حراك يتخطى سعي الأحزاب المتمددة إلى المنطقة لانتزاع السلطة المحلية أيضًا. ومن الطبيعي أن يلجأ بعض الطامحين الى التوظيف في العجز الذي خلفته الأزمة لدى معظم البلديات. ولكن ذلك لا يعني أن هذا العجز لن يهدد بتحول مجالس البلديات عمومًا الى مجالس تشريفية من دون إمكانات، وخصوصا إذا لم يتم إصلاح مداخيل البلديات لتتناسب مع نفقات الإنماء.
فبعض الرسوم التأجيرية في مدينة زحلة وسواها مثلا لا تتخطى حتى اليوم 25 ألف ليرة. وهذا التفاوت بين المداخيل والنفقات ينعكس أيضًا على أداء سائر المؤسسات التي تقدم الخدمات، ومن بينها مؤسسة مياه البقاع، التي لم تنجح الدولة بعد أزمة انتهاء مهلة مجلس إدارتها وإصرار مديرها العام على إنهاء خدماته، سوى في تعيين مدير عام بالنيابة عنه، مهمته الأساسية التوقيع على رواتب الموظفين، فيما خدمات المؤسسة تتقلص يوميًا بسبب ضعف وارداتها. وهذا أيضا يترك تداعياته على زحلة كما على سائر قرى محافظتي البقاع وبعلبك التي تقع أيضًا من ضمن مسؤولياتها.
أزمة عامة
تعاني المدينة، كما سائر قرى البقاع، تراجعا في نسبة نموها الاقتصادي، ينعكس إقفالا للعديد من المؤسسات الخاصة، حتى لو عرفت بعض الطفرات على حساب أموال المغتربين المتدفقة، وخصوصًا في مدينة زحلة، حيث يتضح دور الدولار “الطازج” خصوصًا في نشاط بعض قطاعات السهر والمطاعم والحانات والنوادي الليليلة. ولكنها تبقى طفرات مصطنعة، طالما أن اعتمادها الأساسي على مداخيل غير ثابتة تتدفق من الخارج، فيما مقومات استدامتها مرتبطة بتعافي لبنان واستقراره.
اذا، زحلة لن تكون بخير طالما أن لبنان ليس بخير. بالتالي فإن قضاءها ليس أيضا بخير. وزمن الخصوصيات التي لطالما تم التغني بها قضت عليه الأزمات المتتالية. فيما المطلوب أن يشكل الماضي دروسًا للزحليين. ومناسبة للتخلي عن “فوقية” التعاطي في الشؤون اللبنانية وشؤون القضاء. وإذا كانت المدينة قد كبرت ونمت بسبب هامش الحرية الذي ساعد أهلها على بناء مؤسساتهم بأنفسهم، فكانت لها استقلاليتها في الكهرباء والمياه والتعليم والاستشفاء والتجارة والسياحة، فإن أزمات لبنان المتكررة بين فترة وأخرى أفقدت زحلة دورها في المحيط الذي صار له أيضًا متاجره ومستشفياته ومدارسه. لتبقى صلة وصل زحلة بالمحيط محصورة فقط بتأمين الكهرباء ومعالجة النفايات، إلى الدوائر الرسمية التي تحضنها المدينة وتحافظ على مكانتها كمركز للمحافظة.
ولكن حتى الكهرباء ومحطة معالجة النفايات باتتا مهددتين اليوم. وتوقف خدماتهما يعني مزيدا من التقليص في دور زحلة بالنسبة لقضائها. وهذا مع مفارقة أساسية هذه المرة: توقف خدمات هذين المرفقين لن تكون تداعياته على مدينة زحلة وحدها وإنما على القضاء كله.
لذا يرى معنيون أن المدينة لم يعد يمكنها التمسك بخصوصيات تجعلها جزيرة منعزلة عن مشاكل لبنان عمومًا. وبرأيهم آن الأوان لتطوير خطاب يخرج المدينة من “زواميقها” (أزقتها بالزحلاوي) نحو المشاركة بالمسؤولية الوطنية. مع الأخذ بالاعتبار الخصوصية الزحلية المستندة إلى حسن العلاقة مع الجوار المتنوع طائفيا وثقافيا، وعدم إدخال المدينة في سياسة المحاور التي تعتمدها الأحزاب “الطائفية”، وتجاوزها نحو تشكيل مساحة وطنية مشتركة. يمكن عندها أن تشكل زحلة نموذجًا لإرساء التعاون والتشارك بالمسؤوليات الإنمائية، مع نبذ التقوقع الذي لا يمكن إلا أن يمعن في إلغاء دور زحلة، ليس فقط على مستوى القضاء وإنما على المستوى الوطني العام.