للتعاون. وما مشاركة أرمينيا في المناورات العسكريّة الروسيّة “فوستوك 2022” في سيبيريا إلّا تفعيلا ً وتطبيقا ً لبنود منظمة شنغهاي للتعاون التي إكتسبت أرمينيا عضويّتها بصفة “شريك حوار” في تمّوز ال 2015. وبالتالي، ما سيحلّ بروسيا سينعكس على أرمينيا بسبب الارتباط العضوي بين الدولتين نتيجة الجغرافيا السياسيّة والتاريخ المشترك والمعاهدات والاتفاقيات المشتركة. لذلك إرتباط أرمينيا الظاهر والوثيق بروسيا قي الأمن والاقتصاد والسياسة هو نتيجة ً لكون أرمينيا مسيّرة من قبل الروس وليست مخيّرة.
لنلقي نظرة على مجريات الأحداث في القوقاز في ضوء الصراع الروسي/الأميركي والشرقي/الغربي من منظار أرمينيا لا سيّما دور أذربيجان وتركيا باللعب على التناقضات من خلال الوقوف إلى جانب روسيّا أحيانا ً والغرب أحيانا ً أخرى، ومدى انعكاس ذلك على أرمينيا ومصالحها الحيويّة والإستراتيجيّة المتعلّقة بإقليم ناغورنو-كاراباخ المعروف بآرتساخ.
أذربيجان:
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وفرض العقوبات الإقتصاديّة على روسيا ومقاطعة بعض الدول الغاز الروسي في مقابل تقليل روسيا من تصدير غازها لأوروبا، سعت المفوّضيّة الأوروبيّة لتأمين البديل عن الغاز الروسي من خلال التوسّط لدى أذربيجان لتصدير غازها إلى أوروبا. لذلك، زارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ومسؤول الطاقة الأوروبي، كادري سيمسون, أذربيجان في 18 تمّوز 2022 لطلب المساعدة من نظام علييف في إيجاد البديل عن الغاز الروسي وتغذية القارة العجوز بالطاقة بعد أن شحّ تصدير الغاز الروسي لأوروبا نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا وفرض عقوبات إقتصاديّة غربية على روسيا وتجميد العمل على خط الغاز المعروف ب “نورد ستريم 2” من قبل ألمانيا وتخفيض تصدير الغاز الروسي بواسطة أنابيب نورد ستريم 1 من قبل روسيا ممّا يهدّد الأمن الإقتصادي والصحّي والإجتماعي لبعض دول أوروبا. وبطبيعة الحال، هذه الإتفاقيّة بين الأوروبيّين ونظام علييف ستكون على حساب أرمينيا وأرتساخ إنطلاقا ً من نظريّة ال Zero Sum Game وإعطاء أوروبا الأولويّة القصوى للحصول على الغاز وإن كان ذلك على حساب إلتزاماتها الأخلاقيّة والقانونيّة تجاه القضايا العادلة والمحقّة كقضيّة أرتساخ.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تصافح رئيس جمهوريّة أذربيجان إلهام علييف على أثر اللقاء الذي جمعهما في باكو في ١٨ تمّوز ٢٠٢٢
تركيا:
تعيش تركيّا مرحلة شهر العسل مع روسيا إذ حصلت تركيا على دفعتين من صواريخ أس 400 في تموز ال 2019 وآب ال 2022 على الرغم من معارضة الولايات المتحدة، حليفة أنقرة في حلف شمال الأطلسي، والتهديد بفرض عقوبات أميركيّة. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا عضو في حلف الناتو، ذات الحلف الذي يدعم أوكرانيا بالمال والسلاح في مواجهة الغزو الروسي.
وكانت تركيّا قد ساهمت في محاولة إيجاد حلّ ديبلوماسي للغزو الروسي لأوكرانيا من خلال استضافتها لمحادثات ديبلوماسيّة بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأوكراني دميترو كوليبا بتاريخ 10 آذار 2022 في مدينة أنطاليا بحضور وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو.
وبعد أن لاحت أفق المجاعة في العالم نتيجة الحصار الروسي لموانئ أوكرانيا على البحر الأسود ومنعها من تصدير القمح والحبوب للعالم، قامت تركيّا بالتوسّط للتوصّل إلى إتفاق بين موسكو وكييف في إسطنبول برعاية الأمم المتحدة قضت بتصدير الحبوب الأوكرانية انطلاقا من الموانئ المطلة على البحر الأسود، بحيث يجري تنسيق شحن الحبوب عبر مركز في إسطنبول. إذا , برزت تركيّا مرّة أخرى على أنّها منقذة للعالم من شبح المجاعة وعلى أنّها دولة تسعى للسلام وحلّ الأزمات بالدبلوماسية والحوار وهي ذاتها التي دعمت أذربيجان بالمال والسلاح والعسكر والخبراء ومسيّرات البيرقدار ضدّ حربها على أرتساخ.
إذا ً الدور الذي تلعبه تركيا في الصراع الروسي-الأوكراني يقوّي مكانتها الإقليميّة ويفرضها لاعبةً أساسيّة ً في المنطقة لا يمكن تخطّيها. ذلك الدور وتلك المكانة التي تحظى بها تركيّا، لم ولن تكون لصاح الأرمن وأرمينيا خاصّة ً وأن تركيا تتنصّل من الاعتراف بالإبادة الجماعيّة التي أرتكبها العثمانيّون بحقّ الأرمن في العام 1915, وهي ما زالت تصادر المدن والقرى والأراضي والكنائس الأرمنيّة منذ العام 1915, وهي ما زالت تمارس التمييز العنصري تجاه الأقليّة الأرمنيّة الناجية من الإبادة الجماعيّة التي لا تزال تقيم في تركيّا حتّى اليوم، كلّ ذلك تحت أعين المجتمع الدولي ومؤسساته ومنظّماته.
بالمحصّلة، هذه التخمة السياسيّة والدور المتنامي لكلٍّ من تركيا وأذربيجان في ضوء ما أوردناه بأختصار أعلاه سينعكس سلبا ً على أرمينيا والأرمن. وما الاعتداء الأذربيجاني عل أرمينيا بتاريخ 12 أيلول 2022 بإستخدام المسيّرات التركيّة والقصف المدفعي الثقيل على مناطق مارتوني وجيرموك وغوريس وسوتك الأرمينيّة إلّا خير دليل على ذلك. وبالتالي من المتوقّع أن تتكرّر هذه الاعتداءات العسكريّة الأذربيجانيّة على أرمينيا بظل إنشغال روسيا بحربها على أوكرانيا وحرص أوروبا على تأمين قسم من حاجاتها للغاز من أذربيجان دون إزعاج الأخيرة بالمسألة الأرمينيّة.
إنهاء حرب آرتساخ العام 2020 مهّد للغزو الروسي لأوكرانيا
قلّمت روسيّا أضافر رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان و روضته من خلال حرب أرتساخ الأخيرة إذ لعبت روسيا دور المتفرّج في البداية بذرائع واهية أقلّ ما يقال عنها أنها كانت غير منطقيّة بحجّة أن معاهداتها للدفاع المشترك موقّعة مع أرمينيا في حين أن معركة أذربيجان كانت مع أرتساخ وليس أرمينيا. لكن روسيّا ناقضت ذاتها عندما دعت وزير خارجيّة أرمينيا بدلا ً من “وزير خارجيّة أرتساخ” لتوقيع إتفاقيّة وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرتساخ. بعدها، لعبت روسيّا دور الأم الحنون لأرمينيا، لا لتمنع الضرر عن الأرمن بل للتخفيف منه حتّى لا تتخطّى أذربيجان إقليم أرتساخ وتبتلع أراضٍ من أرمينيا كما تبيّن لاحقا ً بعد انتهاء الحرب أن نيّة أذربيجان تتلخّص بالحصول على ممرّ من أرمينيا يربطها بتركيا عبر الأراضي الأرمينيّة (ممرّ زانكيزور المتاخم للحدود الإيرانية جنوب أرمينيا والذي سيربط بين أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان الأرميني الذي تحتلّه أذربيجان منذ العام 1990 والواقع غرب أرمينيا على الحدود المتاخمة لتركيا) تحقيقا ً للإمبراطوريّة الطورانيّة من خلال الوحدة الجغرافيّة للشعوب الطورانيّة. على أثر ذلك، تدخّلت روسيا من خلال مساع ٍ دبلوماسيّة لوقف الحرب وإنقاذ ما تبقّى من أرتساخ بعدما أدبت باشينيان وحجمته وأعادته إلى بيت الطاعة الروسي، مع العلم أن باشينيان جاء إلى الحكم بمظاهرات شعبيّة عارمة ضدّ سلفه وإتُّهم من قبل خصومه بعلاقته بالولايات المتّحدة الأميركيّة وبمؤسسات جورج سوروس المعروف بكرهه الشديد لروسيا. فما كان على روسيا إلّا أن تحجّمه و”تؤدّبه” من خلال استغلال حرب أرتساخ، لكن كان ذلك على حساب أرمينيا وخسارتها ل 80% من أراضي أرتساخ وخسارة أرواح آلاف الشباب الأرمن التي أُزهِقَت دفاعاً عن الوطن، فكان الثمن باهظا ً جدا ً.
وإذا ما نظرنا للأحداث من منظار التسلسل تاريخي، يتبيّن لنا جليّا ً أن بوتين أراد الانتهاء من قضيّة أرتساخ بحلول نهاية العام 2020 ولو على حساب أرمينيا والأرمن، فيطمئن لأمن القوقاز في جنوب شرق روسيا ليركّز اهتماماته وقدراته العسكريّة والأمنيّة في غرب روسيا ليغزو أوكرانيا في شباط ال 2022 بعد تحضيرات ومناروات عسكريّة دامت لأشهر عدّة. فأتى غزو روسيّا لأوكرانيا بعد حوالي السّنة من إنهاء حرب أرتساخ بوساطة روسيّة.
يبقى السؤال المشروع، ولو نظريّا ً، هل تحارب أرمينيا إلى جانب روسيّا وتدخل في صراع ٍ مسلّح ٍ مع أوروبا في حال توسّعت دائرة المعركة مع روسيا على الرغم من أن لا ناقة ولا جمل لأرمينيا في كل ّ ما يجري بإستثناء ما يحتّمه عليها لعنة الجغرافيا السياسية؟
واستطرادا ً، لو أرادت أذربيجان تمرير غازها عبر الأراضي الأرمينيّة إلى أوروبا، هل سترضخ أرمينيا للضغوط الروسيّة لتعارض هكذا مقترح على الرغم من أنه قد يكون لأرمينيا، على عكس روسيا، مصلحة إقتصاديّة بذلك، مع التسليم جدلا ً أن لا تأثير للصراع الأرميني-الأذربيجاني على فرض فيتو أرميني على هكذا مشروع إقتصادي حيوي لأرمينيا؟
وأكثر استطرادا ً، لو سلّمنا جدلاً أنّ أذربيجان اغتنمت فرصة إنشغال الدول الكبرى بالنزاع العسكري الدائر في أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية على العالم، وقامت بعمليّات عسكريّة ضدّ أرمينيا أكثر خطورة ً من تلك التي وقعت في 12 أيلول 2022, ماذا سيكون موقف روسيا من ذلك؟ وهل ستلعب روسيّا دور الأم الحنون فتتدخّل لصدّ أي إعتداء أذربيجاني على أرمينيا؟
بقلم: د. إسحاق أندكيان
أكاديمي وخبير في إدارة النزاعات الدوليّة