بقلم لوسي بارسخيان،
قبل أشهر قليلة من إنتهاء الولاية الممدّدة للمجالس البلدية، ذكّر رئيس بلدية زحلة – معلقة وتعنايل أسعد زغيب في نهاية العام الماضي بمشروعه الذي وضعه لتوسعة منطقة مقاهي البردوني منذ سنة 2004، أي قبيل إنتهاء ولايته الأولى في مهام رئاسة البلدية، والتي تبعتها ولايتان أخريان لاحقاً. هو مشروع وصف حينها بالحلم، لما تضمّنه من رؤية إنمائية سياحية، تتطلّب التكامل بين القطاعين العام والخاص، بما يعرف بـpublic private investment، بحيث تؤمّن البلدية البنية التحتية المطلوبة، مع تظهير عناصر الجذب المتاحة في المنطقة، مقابل إستثمار القطاع الخاص في الإنشاءات وتنشيط المنطقة بالخدمات.
لم يكن هذا المشروع مجرّد حلم حينها، بل تبع عرض المخطط مباشرة بدء الإستملاكات المطلوبة له، لتكتمل مع ولاية المجلس الحالي وقبل ارتفاع أسعار التخمينات. بموازاة استحداث جسر منذ سنة 2010 ربط ضفتي المنطقة التي ستتحول للمشاة فقط عند اكتمال عناصر المشروع.
كان يفترض أن يتحوّل الحلم حقيقة مع عودة زغيب إلى ولاية ثالثة من رئاسة البلدية، بعد غيابه عنها لولاية كاملة، تخللتها مناكفات عديدة صرفت النظر عن المشروع. إلا أن الإمكانيات التي أتيحت للمجالس البلدية منذ بدء الأزمة اللبنانية الأخيرة عام 2019، لم تسمح سوى بالأعمال التي نفّذت في مجرى نهر البردوني بالموقع المخصص للمشروع، الى إقامة جسرين فوقه سيكونان وفقاً لمخطط الموضوع مخصّصين لخدمة المنطقة السياحية والسكان المقيمين فيها، عبر ربطهما بمواقف السيارات. وقد أضافت البلدية إليهما مشروعاً موقّتاً إقتضى تأمين رصيف للمشاة مع ساحة ملاصقة فكّرت باستثمارها في إقامة «كيوسكات» أو غرف جاهزة تحفّز الحرف الصغيرة وخدمات الطعام السريعة وغيرها من الإستثمارات الصغيرة في هذه المنطقة، إلى حين تتلمّس الإستثمارات الكبرى طريقها إلى هذا المشروع. ولكن أيضاً أجّلت «حرتقات محلية» فكرة الكيوسكات، وأعادت الملفّ إلى هيئة الشراء العام لوضع مزايدة خاصة به ينتظر تنفيذها في العام الجاري.
قد يكون من المفيد التوضيح أنّ خلفية طرح هذه التفاصيل إعلامياً حول مشروع لم تكتمل عناصره حتى الآن، لا ترتبط فقط بالرغبة في الإضاءة على الموقع مجدّداً، في محاولة أرادها زغيب أن تستنهض همم القطاع الخاص، وإنما هي تعكس خلاصة التجارب التي تجعل من هذا المشروع في زحلة نموذجاً عن الإحباط الذي لحق بطموحات اللبنانيين عموماً في تطور مدنهم عبر السنوات، فعجزت عن تحقيق متطلّبات ساكنيها، أقلّه بخلق حيوية إقتصادية تؤمّن فرص عمل جديدة للشباب، لتحافظ عليهم بين أهلهم. وهذا ما لم تتمكّن أي من بلديات البقاع على الأقلّ من تحقيقه منذ سنوات طويلة. فبين المعوّقات الإدارية، والروتين الذي يخنق المشاريع في ظلّ مركزية حادّة تكبّل الأيادي وخصوصاً في البلديات الكبرى، وبين جائحة «كورونا» وتلاشي إمكانيات البلديات جرّاء الأزمة الاقتصادية التي بدّدت قيمة أموالها، صارت أبعد مخططات هذه البلديات أن تستمر برفع نفايات مدنها ودفع رواتب موظفيها. وهو ما جعل هذه المدن، وخصوصاً في الأطراف اللبنانية، لا تشبه طموحات شبابها، وعزّز لديهم النزعة للهجرة، حتى لو تحوّل مسقط رأسهم الأخير مجرّد مأوى للمتقاعدين.
في المقابل، أراد رئيس البلدية أن يتوجّه برسالتين من خلال إضاءته مجدّداً على المشروع: الأولى، كما قال، إنّ «التخطيط للمدن لا يمكن أن يتوقّف، حتى لو كانت الإمكانيات محدودة. فنحن في لبنان لا يمكننا أن نتقدّم إلا إذا خطّطنا كأغنياء ونفّذنا مخطّطاتنا من ضمن الإمكانيات، وحينها فقط ستكبر مدننا بشكل تراكمي ومنتظم». أما الرسالة الثانية فوجّهها الى المستثمرين الزحليين خصوصاً، والذين قال إنّه طرق أبواب بعضهم سابقاً، ليدعوهم الى «الثقة باقتصاد زحلة»، شارحاً أنّ «البلديات لا تملك إمكانية إقامة الإنشاءات الإستثمارية التي
تحقّق هدف المشروع الإقتصادي، ولكن هي تقدّم للمستثمر كلّ الحوافز والبنية التحتية التي بتكاملها مع المقوّمات السياحية المتوفرة، يمكن أن تجعل من هذه النقطة «الميتة» شتاء في زحلة، مكاناً يضجّ بالحياة على طول فصول السنة».
وزبائن زحلة موجودون بالأساس، وهم من مختلف الجوار الذي يجد فيها فسحة من الحرية، تجعل منها مكان تلاقٍ لمختلف الأعمار والأجناس والجنسيات، وبأجواء عائلية، ناهيك بالإستثمارات الشبابية، خصوصاً في قطاع الحانات والملاهي الليلية التي ولدت في زحلة أخيراً وسمحت لليلها بأن يبعد شبح الشيخوخة المسيطر في ساعات النهار، ما يشكّل نموذجاً عن النهضة التي يمكن أن يحقّقها الإستثمار في قطاع الخدمات السياحية في زحلة.
عقدان من الزمن
أمّا مشروع توسعة المنطقة السياحية في المدينة فقد طال انتظاره. وبين الأعوام 2004 و 2023 ترك نحو عقدين من الزمن بصماتهما على ملامح رئيس البلدية وكل من تشاركوا معه هذا الحلم، وكبُر في المدينة جيل آخر لم يعد مقتنعاً بإمكانية تحقيقه.
هو نموذج عن حياة اللبنانيين الذين مرّ عمرهم بمناكفات سياسية وإجتماعية وإقتصادية لم تسمح لهم برؤية بلد. وفي بعض الحالات، لم يكن التقصير حكراً على السلطات الرسمية، بل تخطّاها الى الهمم الفردية. فزحلة تحديداً، التي يحلو لأهلها أن يسمّوها «جمهورية»، لم تكسب هذه الخصوصية، إلا كنتيجة لرؤية مستقبلية وضعها رجالاتها، وتعاون على تحقيقها أهالي المدينة من مقيمين ومغتربين، فأمّنوا عبر هذا التعاون ومن دون حاجة إلى الدولة ووزاراتها، الكهرباء والمياه وبناء القصر البلدي وحتى المستشفى الخاص الأول بها. وبجهودهم وأموالهم وتعاونهم رفعوا الصروح الدينية والمدنية وبنوا المعالم التي أغنت المدينة تراثياً واقترنت باسمها وبتاريخها.
ينقص المدينة هذا التعاون بعد أكثر من 300 سنة على تاريخها، وتعكّر المناكفات والأنانيات تقدُّمها، ومن دون أن تقدّم بديلاً، فيما العقلاء في زحلة مقتنعون أنّها أحوج ما تكون اليوم، وخصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان عموماً، الى التكامل بين مؤسّساتها وأهلها، والى وعي جماعي يشبه تاريخها، يحافظ على زحلة لأهلها، ويؤمّن لشبابها مدينة على قدر طموحاتهم.
المصدر:نداء الوطن