كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن،
يشكّل 30 أيار المقبل الموعد الأخير لانتهاء عقد تشغيل مرفق البريد الذي تديره إلى الآن شركة «ليبان بوست». فالقطاع الذي جرت خصخصته منذ سنة 1995، سيخضع لعملية تلزيم جديدة، هي الثانية فقط خلال أكثر من 25 سنة. وبالتالي فإنّ عقده التشغيلي الذي شارف على الإنتهاء، لا يزال الأوّل الذي وقّع مع «ليبان بوست» والتي كانت مملوكة من شركة «بروفاك ليمتد»، والمملوكة بدورها من شركة «كندا بوست»، قبل أن تنسحب الأخيرة من الشراكة إثر خلاف على مسألة الحصرية وآلية تطبيقها، وتنتقل الأسهم إلى «مجموعة ميقاتي» التي باعت بدورها الأسهم إلى «مجموعة سارادار».
إنّ إنتهاء العقد الذي جرى تمديده مرّات عدة، قد لا يعني طيّ صفحة «ليبان بوست» مرحلياً. إذ إن الشركة ملزمة بتسيير هذا المرفق، إلى حين تلزيمه لمشغّل جديد. والعقد التشغيلي المبرم منذ البداية، يغطّي هذا الموجب من خلال بنوده التي تنظّم عملية التسليم والإستلام. وهو يحدّد لذلك مهلة ستة أشهر على الأقل. وهذا يجب أن يشكّل وفقاً لمصادر معنية، حافزاً لالتقاط الأنفاس، وبالتالي عدم الإستعجال في إبرام أيّ عقد تشغيلي لا يراعي مصلحة الدولة وخزينتها. ما يعيدنا إلى تفاصيل المجريات التي أحاطت عملية التلزيم التي أبطلتها هيئة الشراء العام في 7 نيسان الجاري، بعدما رست على عارض واحد، هو تحالف شركتي ميريت إنفست ش. م. ل. اللبنانية وColis Privé France وكلتاهما مملوكتان من شركة CMA CGM.
أيام قليلة فقط فصلت بين وصف وزير الإتصالات جوني قرم فوز الشركة بـ»قصة نجاح» وبين ما وثّقته هيئة الشراء، بعد تدقيق من قبل خبرائها، من «مخالفات جوهريّة» في قبول عرض «لا يراعي المقتضيات التي وضعتها الإدارة في دفتر الشروط الخاص بالتلزيم»، و»إضرار بالمال العام» نتيجة تقليص حصة الدولة من الإيرادات.
وعليه وضعت هيئة الشراء العام تقريرها الذي ألغى نتيجة مزايدة تأجّلت جلسة انعقادها عدة مرات، بناء على ملاحظتين أساسيتين في العرض المقدّم: الأولى تتعلق بخبرة الشركة غير الكافية للإيفاء بمتطلّبات دفتر الشروط، وقد تبيّن أن الشركة تعمل في نقل الطرود بين البائعين والمشترين عبر بوابات التجارة الإلكترونية، ولا تملك أيّ خبرة في إدارة المرفق البريدي. والثانية تتعلّق بالعرض المالي المقدّم، والذي بني على تقاسم الأرباح بدلاً من تقاسم الإيرادات خلافاً لما ينصّ عليه دفتر الشروط.
وتستغرب المصادر المعنية أن لا يتقدم سوى عارض واحد لإدارة قطاع مهم كالبريد، يعطي حصرية تشغيل للفائز به، ولا يتطلّب إستثمارات كبيرة. وهذا ما لا يمكن تفسيره وفقاً للمصدر إلا بالتقصير في الترويج لعملية التلزيم، سواء عبر وزارة الخارجية أم من خلال سفراء بلدان تملك خبرة واسعة في إدارة القطاع، ولديها خدمات بريدية يمكن أن تؤمّن قيمة مضافة في إدارته بالنسبة إلى لبنان.
كما تستغرب أيضاً أن لا تسارع وزارة الإتصالات للتحقّق من الأسباب التي جعلت أربع شركات بريدية تشتري دفاتر الشروط من دون أن تتقدّم بعروض. فهل كان الخلل في دفتر الشروط والعقد المرافق أم في مكان آخر؟
لجنة الإستلام دون مستوى المسؤولية!
وهكذا وصلنا الى جلسة 30 آذار مع عارض واحد. وعلى رغم ذلك إنعقدت جلسة التلزيم للنظر في عرضه المقدّم، ليتبيّن أنّ الإشكالية لم تكن محصورة بعدم وجود منافسة على القطاع فقط، وإنما بأداء لجنة الإستلام الذي ترى المصادر أنه لم يكن على مستوى المسؤولية. بحسب مصدر مسؤول، فإنّ «العرض الوحيد هو إستثناء لقاعدة المنافسة المفتوحة، وبالتالي عندما نسير باستثناء يجب أن يكون هناك حذر تام لإتمام مزايدة تراعي المصلحة العامة بشكل أفضل». وهذا ما لم يحصل على ما يبدو.
فالتناقض النافر بين العلامات المرتفعة التي منحتها لجنة الإستلام لمؤهّلات الشركة التي فُضّ عرضها، ولعروضها الفنية والمالية، وبين ما خلصت إليه هيئة الشراء العام في تقريرها حول كون هذه المؤهلات غير كافية بالأساس لفتح عرضيها المالي والفني، دفع بمتابعين للتدقيق في تخصّصية لجنة الإستلام وجديتها، ومدى تأنّيها في درس العرض.
إذ إن اللجنة تألفت وفقاً لمحضر جلسة التلزيم من مدير عام البريد رئيساً، وعضوين آخرين إسُتقدما من وزارة الإتّصالات، تبيّن وفق المصادر، أنّه تنقصهما الخبرة في قطاع البريد. فأنجز هؤلاء دراسة كل الملف بما يتضمّنه من وثائق تثبت أهلية الجهة العارضة، وعرضيها الفني والمالي، في خمس ساعات فقط، بينما إستغرق هيئة الشراء العام خمسة أيام عمل، إستعانت خلالها بخبراء متخصّصين لدراسة الملف ووضع الملاحظات عليه بشكل كامل.
«تهريبة» تقاسم الأرباح
ولولا هذا التدقيق الجدّي، ربما كانت ستمرّ «تهريبة» تقاسم الربح بدلاً من تقاسم الإيرادات، «فنكون أمام عقد سيّئ يمدّد لمرحلة ليبان بوست السيئة» كما تقول المصادر. علماً أنّ اللغط الذي كاد يسمح بهذه «التهريبة»، وفقاً لمصدر مطّلع ليس في أساس دفتر الشروط، إنما بملحق المستندات المدرجة في عقد التشغيل، والذي يتضمّن كيفية توزيع الحصص بين الشركة الفائزة والجهة الشارية. وهو محصور بالمستند رقم 3، والذي ورد تحت عنوان جدول تقاسم الإيرادات، بينما هو يتحدّث عن تقاسم أرباح.
ويرى مصدر مسؤول في المقابل، أن هذا اللغط يجب أن يكون موضوع تحقيق ومحاسبة من قبل السلطات المعنية، بعدما توجهت هيئة الشراء العام بتقريرها حول المخالفات إلى كلّ من ديوان المحاسبة، النيابة العامة للديوان، والى هيئة التفتيش المركزي. وبالحدّ الأدنى، «يجب فتح تحقيق إداري من قبل الوزير المسؤول عن إدارته، بالسبب الذي دفع بلجنة الإستلام لقبول هذا العرض، خصوصاً أنّه بدا أمام مستطلعيه مقتنعاً بقرار هيئة الشراء العام بإلغاء الإلتزام».
وتقول مصادر مطّلعة إنّه لا شائبة بدفتر الشروط ولا حتى بالعقد المرافق له بالنسبة للإلتزام، لا بل هناك نصّ بالعقد المرفق بدفتر الشروط يطمئن أنه في حال حصول خلاف في التفسير بين العقد ودفتر الشروط أو أحد ملحقاته، فيعتمد دفتر الشروط. وفي دفتر شروط تلزيم تشغيل قطاع البريد لم ترد إطلاقاً عبارة تقاسم الأرباح، إنما هو واضح ودقيق تماماً في تحديده العلاقة المالية بين الجهة المشغلة والجهة الشارية بتقاسم الإيرادات. إلا أنّ الالتباس حصل جرّاء فتح عرض شركة غير مطابقة للمواصفات وفقاً لما تؤكّده المصادر.
في كواليس الشركة الفائزة
وهذا ما يعيدنا إلى كواليس تقدّم الشركة العارضة وتفاصيل تكوينها. فالمفارقة اللافتة هنا، هو أن تتقدّم بالعرض الوحيد مجموعة CMA CGM والتي يرأس إدارتها ومجلسها التنفيذي رجل الأعمال الفرنسي اللبناني الأصل رودولف سعادة، وهي الشركة نفسها التي إلتزمت أيضاً تشغيل مرفأ بيروت. وكانت CMA CGM قد سحبت دفتر الشروط قبل موعد الجلسة المحدّدة في شهر شباط ولم تتقدم بأي عرض. فيما غابت عن تقديم العروض شركة غانا بوست المملوكة من جمهورية غانا، وهي الشركة التي رفض استقبال عرضها في الجلسة المحدّدة بشهر شباط، بسبب تأخّرها 27 دقيقة عن جلسة فضّ العروض وفقاً لما ذكرته مصادر وزارة الإتصالات.
كما أنّ «ليبان بوست» كانت من الشركات التي سحبت دفتر الشروط قبل جلسة التلزيم في شهر شباط، إلا أن مشاركتها بقيت محظورة قانونياً على رغم كل المحاولات التي جرت لتبرئة ذمّتها المالية تجاه الدولة في المرحلة السابقة، والتي رفضتها هيئة القضايا في وزارة العدل لكون التقاضي لم يحسم بعد بين الشركة والدولة اللبنانية في مجلس شورى الدولة.
وفي مزيد من المعلومات حول الشركة التي كادت تفوز بحصرية إدارة قطاع البريد لتسع سنوات مقبلة، يتبيّن أنّ مديريها الحاليين هم ممن كانوا يشغلون مراكز مسؤولة سابقاً في مجموعة «سارادار»، وهي المجموعة التي تملك أسهم ليبان بوست حالياً. فهل يعتبر هذا الأمر صدفة؟ أم أنه يشكل محاولة إلتفاف من قبل مالكي أسهم ليبان بوست على قرار حظر مشاركتها بالمزايدة؟
إستلام الإدارة
في بلد تحكمه الصفقات تبدو هذه الشكوك مبرّرة. لا بل تعززها المجريات المحيطة بعملية التلزيم، في مقابل إمتناع الدولة عن استرداد القطاع أو حتى البحث في خيار خلق هيكلية إدارية تسمح بذلك ولو بشكل مؤقت، علماً أنه وفقاً للمصادر «إذا حاولنا الإستعانة بأصول إدارة قطاعات البريد في العالم، من أميركا إلى مصر مروراً بفرنسا وإنكلترا وألمانيا، نجد أنه في كل هذه الدول خصخصت كل القطاعات، باستثناء البريد».
هذا الخيار طرح بحسب المعلومات في اجتماع وزاري أوصى إمّا بتعديل دفتر الشروط أو بإنشاء مؤسسة أو شركة عامة تدير المرفق باسم الدولة، ولكن التوجه كان فوراً نحو تعديل دفتر الشروط، ولم تجر بحسب المصادر ولو محاولة لبلورة أفكار لتسلّم إدارة القطاع مباشرة. مع أنّ ذلك لن ينطلق من فراغ، كما تؤكد المصادر، كون هناك جسم قائم لوجستياً وفنياً تحقّق من خلال ليبان بوست، التي يفترض بحسب العقد الموقّع معها أن تتخلّى للدولة اللبنانية عن كل تجهيزاتها وأنظمة العمل والإدارة لديها عند إنتهاء العقد. كما أنّه لا يمكن التذرّع هنا أيضاً بأنه ليس في مديرية البريد سوى أربعة موظفين، فيما يتبيّن أنّ موازنة المديرية العامة للبريد تغطي 40 موظفاً.
ومع ذلك يبدو أنّ التوجه حالياً هو نحو إعادة المزايدة. ومن هنا، ترى المصادر المطّلعة أنه بعد تعديل دفتر الشروط، من المفترض تجنّب الثغرات السابقة، أولاً من خلال عرض تعديلات دفتر الشروط التي يحقّ للجهة الشارية أن تجريها، على هيئة الشراء العام لإبداء الرأي فيها ولو أخلاقياً، وخصوصاً بعد اللغط الذي كاد يهدر حق الدولة سابقاً. ومن ثم الإنصراف بعد التأكد من خلوّ دفتر الشروط والعقد المرافق من الشوائب المحتملة، للتسويق بشكل جيد لهذه المزايدة، ولأهمية هذا القطاع وما توفّره حصرية إدارته من إمتيازات للمشغل، مع إعطاء مهلة كافية للشركات للتقدّم بالعروضات.