بقلم رمال جوني،
تكاد لا تهدأ حركة «أبو علي» بين سلق القمح وإعداد الكشك ودقّ الزعتر. يمضي الرجل الستيني يومه في العمل. رغم تعبه لا تفارقه الإبتسامة، هو من رعيل المونة والأكل التراثي، لا تزال بنيته صلبة ومناعته قويّة في مواجهة التلوّثات. يُعيد السبب إلى أن نظامه الغذائي البلدي مثل «كبّة بندورة»، «مجدّرة»، «كبّة عدس»، «مكدوس» باذنجان وغيرها. يشعر بالسعادة لعودة الناس إلى «مونة» الأجداد، يقول إن «من فات قديمه مات».
يتعاون مع عائلته في العمل ويحقّق أرباحاً كبيرة. فالمؤن «مربحة». سعر أيّ صنف 10 دولارات وما فوق للكيلوغرام الواحد، صحيح أنها متعبة، لكنها ممتعة على حدّ وصفه.
ينهمك في غسل القمح البلدي، «سلقه» متعة يجمع العائلة كلّها، يتطلّب سلق القمح ساعات حتى ينضج، ويحتاج نقله إلى السطح إلى سواعد ومعونة العائلة، إذ يتحّول بسطه أو مدّه «سجّادة ذهب» إلى أن تجفّ الحبوب، ثمّ تنقل إلى الجاروشة لتنتج «السميد» الناعم الذي يُستعمل «للكبّة» مثلا، والخشن «للمجدرة» و»بقلة الحمّص»، على سبيل المثال.
من جهتها، تنهمك «أمّ محمد» في إعداد الكشك الذي يحتاج الى وقت لتحضيره، بين «نقع» السميد في اللبن وصولاً إلى مدّه على حصيرة تحت أشعة الشمس ليجف، ثم ينقل إلى الجاروشة.
لأيام طويلة، تنشغل نسوة الجنوب في إعداد المؤن التي تحولت لدى البعض فرصة عمل، في ظل ارتفاع الطلب عليها.
لا يهدأ هاتف «أم علي»، تدوّن الطلبات على دفترها الخاص. لها باع طويل في تحضير المأكولات البلدية وصناعتها. تتعاون مع بناتها في العمل وتجني أرباحاً مهمّة، مشدّدة على أهمية المؤن في زمن الفساد الغذائي. يقصدها العشرات لشراء «مونتها» الطازجة، وتؤكّد أن ارتفاع الطلب عليها جاء بسبب هروب الناس من مأكولات السوق. وتقول «إنه عصر المونة، لا أُصدّق كثرة الطلب عليها، كنت أُعدّ في السابق 30 كيلوغراماً كشكاً، أرتفع هذا العام إلى 100 كيلوغرام، ويترواح سعره بين 8 و10 دولارات.
ما يُفرح قلبها أنّ العز عاد الى تراث الأجداد، واقتناع الناس بها، وتتوقع أن تُصبح المونة البلدية منافسةً قويّة للبضائع المستوردة «شرط حمايتها من المنافسة». في كلّ مرّة يقفل مطعم أو ملحمة أو تصادر مواد منتهية الصلاحية من «السوبر ماركت»، ترتفع الحاجة إلى المأكولات والأطعمة البلدية الخالية من المواد الحافظة، هذا ما تقوله «الحاجة سعدية» السبعينية. لم تتخلّ عن عادة تنظيف القمح أو ما يعرف بالعاميّة والبلدي «تنقيته» وإزالة الشوائب من تراب وغيره. تواظب على عملها منذ كانت في العشرينات من عمرها، وترى فيه «متعةً وراحة». ترفض اللجوء إلى الآلات الحديثة، لأنها «تُفقد طعمها»، تفضل إعدادها يدويّاً.
تُحضّر مونتها البلدية بيدها، لم يثنها العمر عن العمل، وما زالت قويّة «كالحصان»، كما تقول. تجهّز كلّ شيء من «الكشك البلدي» و»القاورما» والحبوب إلى «رُبّ البندورة»، و»المكدوس» و»الملوخية»، وغيرها من أصناف. ترى أن المنزل بدونها «كالبرّاد الفارغ». تعترف أنّ صناعة المونة متعبة، ولكنها صحيّة. تنظر بعين القلق للمأكولات التي تغزو السّوق التجارية، فتصفها «بالخطرة»، بل تعتقد «أنّنا بتنا في زمن إذا لم نصنع طعامنا بيدنا سيضربنا المرض». قناعة موروثة ومنتشرة بين أبناء جيلها الذين يعتمدون على الأكل البلدي، لأنه في نظرهم «صحّي وخالٍ من المواد الملوثة».
المصدر:نداء الوطن