كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن،
لا يصحّ أن تمرّ الأرقام التي أعلنها محافظ البقاع كمال أبو جودة حول حجم القوة العاملة السورية في سوق العمل اللبنانية، من دون البحث في الأسباب والظروف التي جعلت أعداد المؤسسات التي يشغلها سوريون مقيمون في لبنان في بعض البلدات والقرى اللبنانية، تتفوّق على أعداد مؤسسات اللبنانيين.
هذه الأرقام، وإن بدت كمؤشّر على حجم الضغط الذي يشكّله النزوح السوري في سوق العمل اللبنانية، إلّا أنّ البحث في ظروف تضخّمها يكشف أيضاً استفاقة متأخّرة من جانب الدولة اللبنانية للإمساك بهذا الملف، في ظلّ تقديم بعض «تجّار الأزمات» اللبنانيين مصالحهم الفردية على المصلحة العامة لمحيطهم، حيث وجد هؤلاء في النزوح فرصة لمراكمة أموالهم، تماماً كمتصيّدي كل أزمة ظهّرت في مجتمعاتنا الفئة المعروفة بـ»أغنياء الظرف».
ولنعد إلى الأرقام التي أعلنها المحافظ أبو جودة نقلاً عن إحصاءات حديثة للمديرية العامة للأمن العام. إذ تبيّن وفقاً لأبو جودة «أنّ هناك نحو أربعة آلاف مؤسسة يديرها سوريون بين البقاع الأوسط والغربي». وكانت الصدمة الفعلية للرأي العام في ما كشف أنّه في نطاق بلدة برّ الياس وحدها، من أصل ألفي مؤسسة، هناك 1700 مؤسسة يديرها سوريون.
ليست برّ الياس قرية نائية في سهل البقاع، إنما هي تقع على مسافة كيلومترات قليلة من منطقة المصنع الحدودية، بوابة لبنان الشرقية التي استقطبت في بداية النزوح السوري عشرات آلاف النازحين بشكل شرعي وغير شرعي. هؤلاء كبرت عائلاتهم مع ولادة معظم أولادهم في أماكن نزوحهم، وباتوا يعدّون مئات الآلاف.
قبل تحوّل برّ الياس قِبلة للأعداد الكبيرة من النازحين السوريين، والذين انتقل بعضهم إليها إثر حرب الجرود التي شنّها الجيش اللبناني على الإرهابيين الذين تسلّلوا إلى بلدة عرسال وجرودها، استقطبت أيضاً جزءاً من الفلسطينيين المهجّرين، حيث وجد هؤلاء ملجأ لهم في هذه البلدة منذ عشرات السنوات. فولدت مؤسسات تربوية وصحّية عنيت بتأمين الخدمات اللازمة لهؤلاء. ولكن على الرغم من إقامتهم الطويلة التي جعلتهم جزءاً من نسيج برّ الياس، بقيت مزاولة الفلسطينيين المقيمين في البلدة المهن من خارج تلك التي تتيحها لهم الأنظمة والقوانين اللبنانية محدودة جداً، إلى أن تشاركوا صفة المقيم في البلدة مع السوريين.
تفوّق عددي واقتصادي للنازحين
فرض الوجود السوري في برّ الياس بالمقابل تغييرات في نسيجها الاجتماعي العام، بعدما كانت الحروب اللبنانية الأهلية قد بدّلت في نسيجها الطائفي أيضاً. وبات الحديث في البلدة حالياً عن تفوّق أعداد النازحين السوريين على أهل برّ الياس، وكان من الطبيعي أن يحمل هذا التفوّق العددي معه، تفوّقاً اقتصادياً أيضاً.
بمجرّد عبور الطريق العام الذي يطلّ عليه مدخل برّ الياس الأساسي، يلاحظ منذ مدّة تبدّل واجهتها. المؤسسات التجارية التي نشأت بدءاً من القوس المستحدث عند مدخل البلدة، تترك انطباعات بتبدّل في هويتها. ويبدو عبور القوس، دخولاً أو خروجاً، كانتقال لأحد الأسواق الشعبية في أرياف سوريا. في وقت يكشف عدد المؤسسات التي نشأت في هذه المنطقة عن حالة انتعاش واسعة شهدتها سوق برّ الياس بفضل النزوح السوري، على الرغم من نوعية خدماتها التي تمسّ ذوي القدرات الشرائية المحدودة خصوصاً.
رخص إنشاء… أو شركاء لبنانيون
لا ينفي أصحاب هذه المؤسسات السوريون بالمقابل أنهم القوى العاملة الأقوى في البلدة. ولكنّ الكثيرين منهم يؤكدون أنهم يحملون رخصاً تسمح لهم بإنشائها، وقد عمد بعضهم إلى قوننة أوضاعه من خلال توظيف أعداد من اللبنانيين أيضاً أو اتّخاذ شريك لبناني لهم من بين أبناء البلدة. أمّا العامل السوري في هذه المؤسسات، فيبدو وضعه أكثر دقة، إذ يكشف البعض أنّ محاولات استصدار إجازات عمل لهؤلاء تصطدم بعراقيل عدّة مفروضة من قبل وزارة العمل، وكأن المقصود بحسبهم التضييق الإقتصادي عليهم لحملهم على مغادرة لبنان.
إنفلاش مؤسسات السوريين في المقابل، لم يرح المجتمع السوري الباحث عن فرص العمل وحسب، وإنما وجد فيها شبان فلسطينيون أيضاً فرصاً لهم. إلا أنّ جميع هؤلاء يعملون من دون إجازات عمل تسمح بذلك. أقلّه هذا ما يؤكّده بعض أصحاب المحلات الذين التقيناهم.
أحد الشبان العاملين في مؤسسة يشغّلها تاجر سوري، كان قد بدأ يخبرنا أنه لدى توجّه دورية من أمن الدولة إلى البلدة قبل أيام، اختفى هو من المحل ريثما غادرت الدورية، وبالتالي لم يدركوا وجوده. ولكنه ما لبث أن تراجع عن تصريحه عندما أخبرناه بأن القوانين تمنع الأجنبي من مزاولة معظم المهن المخصّصة للبنانيين، حتى لو كان وجوده في لبنان شرعياً، فأصرّ حينها أنه لم يكن يتحدّث عن نفسه، لأنه كما قال «عامل بناء فقط».
من منطلق معايشتنا ميدانياً واقع برّ الياس عبر سنوات، بدا واضحاً لنا خلال استكمال جولتنا في البلدة، أنّها اتّسعت تجارياً بشكل كبير. لم يعد نشاطها مقتصراً على مؤسسات الطريق العام التي عاشت أفضل مراحل الانتعاش خلال وجود الجيش السوري في لبنان. بل توغّلت في الكثير من المؤسسات إلى داخل البلدة، حيث بدا وكأنه في كل زاوية منها ولد نشاط اقتصادي.
مؤسسات جديدة
بعض المؤسسات لم يكن لها حتى وجود قبل بدء النزوح السوري. ويخبر أحدهم عن صاحب بناء تمكّن من تشييد مبنى ثانٍ من الدخل الذي وفّره له تأجير مؤسساته لسوريين. صاحب مؤسسة سوري كشف لـ»نداء الوطن» أنه مستأجر منذ سنة 2017. خلال هذه الفترة كان يسدّد أجرة سنوية للمالك تصل إلى 20 ألف دولار. إثر انهيار قيمة العملة اللبنانية، إنخفض الأجر إلى سبعة آلاف دولار ولكن المالك عاد ورفعه هذه السنة إلى عشرة آلاف دولار.
مثل هذه المصارحة تكرّرت على مسامعنا لدى أصحاب مؤسسات أخرى، لديهم الانطباعات بأنه إذا أدّى استمرار الضغط إلى إقفال مؤسّساتهم نهائياً في البلدة، فلن يجد مالكوها من يستأجرها منهم. واقع يتحدّث عنه أيضاً أحد الشبان الفلسطينيين الذين يعملون في مؤسسة، مشيراً إلى أنه قبل قيام بعض التجار السوريين بالاستثمار في هذه المؤسسات لم يكن مثل عمله متاحاً له في البلدة.
سوق مركزية للبقاع
إذاً، لا بدّ أن يكون التجار السوريون وجدوا فرصاً جيدة للاستثمار في سوق البلدة المستحدثة كي يوافقوا على الأجرة المرتفعة التي فرضت عليهم من قبل المالكين. وأشار أحدهم إلى أنّ سوق برّ الياس شكّلت سوقاً شعبيةً مركزيةً لكل البقاع، بحيث لا يزال يقصدها الزبائن للتبضّع بالجملة والمفرّق من كل أنحاء لبنان، ولا تستهدف سوى الطبقة الشعبية، التي تؤمّن لها احتياجاتها بأسعار أقلّ من باقي الأسواق، إذ إنّ القاعدة هنا هي: «الربح القليل يؤمّن بيعاً كثيراً».
المفارقة التي يتحدّث عنها هؤلاء التجّار أيضاً هي أنّ المالك اللبناني لا يمكن أن يؤجّر محلّه للبناني، لأنه غير ضامن بأنّ الأخير سيسدّد له الأجرة مسبقاً كما يفعل التجّار السوريون. وإذا وقع خلاف بينهما فلا يضمن أنه سيتمكّن من استرداد المؤسسة المؤجّرة بالسهولة التي يفعلها مع التاجر السوري.
هي إذاً «منفعة متبادلة» بين مؤجّري المساحات وشاغليها. إلّا أنّ فئة المستفيدين هذه تبدو محدودة قياساً إلى الأثمان الكبيرة التي تدفعها البلدة وأهلها عموماً، والتي، حسب ما تؤكّده مصادر في برّ الياس، لم تعد بنيتها التحتية تستوعب الأعداد الكبيرة للنازحين المقيمين فيها، ولا حتى لزوّارها، وقد فاقموا حتى كميات النفايات الناتجة عن بعض النشاطات، في ظل عجز في ميزانية بلديتها، حتى بتأمين كلفة الكنس وجمع النفايات.
بالطبع، ما كان هذا ليحدث لو لم تأت استيقاظة الدولة متأخّرة للإمساك بزمام أمور ملف النزوح السوري في لبنان منذ البداية. فمؤسسات «السوريين» التي انفلشت اليوم، ليست سوى نتيجة للعشوائية التي مورست باستقبال النازحين السوريين، بحيث بات هؤلاء مجتمعاً ثانياً موازياً للمجتمع اللبناني، يحتاج إلى خدمة نفسه، وإلى توفير ما يحتاجه من طعام وشراب وملبس. في وقت لا يتردّد بعض التجار السوريين بالحديث عن «اللبناني» كونه «مواطناً كسولاً» ربما يكون قد أفسده النظام المصرفي الذي كان سائداً قبل أزمة الودائع، فجعله يبحث عن أرباح سهلة، توفّر له الموارد من دون إنتاجية. ألم تكن هذه واحدة من دوافع البعض إلى قلع مواسم أراضيهم ليزرعوا مكانها مخيّمات اللاجئين من دون أن يقدّروا مخاطر أطماعهم على مجتمعاتهم ووجوديتها أولاً؟