بقلم الدكتور محمد خير فرج ،
لمّا تكون في محراب أدبه، وتجلس في مقام احترامه، وتنطق على منبر كلامه، وتدعو القوم في لغة صفائه، وتحاور الناس في لسان ذِكره، وتُنعِم النظر في استبصار مُراده، وتتأمّل في مسيرة تِرحاله، وتتلمّس صفاء سريرته؛ تُنكر أنا الذات، وتتجرد من هوى النفس، وتبتعد عن القِيل والقال وكثرة الكلام، فتجد نفسك في قلبه وقلب دعواته وقلوب الناس.
إنها لغة القلوب المخمومة التي كنَسَتْ من قلوبنا الإثم،والغِلّ والبغي والحسد، بهذا الجمال للغة القلوب أحسِب قلب أخي الحبيب والغالي الأديب الأريب الشيغ علي حجازي إمام بلدتي البيرة-عزة لأكثر من عقدين من الزمن.
وأحسِب أخي أبا مُنذر أنك وريث الشيخ خليل الصيفي سلطان الدعاة كما وصفه سماحة الوالد الشيخ خليل الميس، وصِنو الشيخ عبد المجيد الخطيب بقلبه المخموم ووفائه المشهور المحمود، بل قرين مفتي القلوب والعقول برقائق نثره وشعره الشيخ أحمد اللدن. ودعني أذرف عليك دمعة الحنين لمجالسك الصافية من كل الكادورات البشرية، والزخارف الكلامية، والأمراض النفسية، الهادفة إلى تشوّف الذات والأنا، فكنت الخطيب الصادق، والداعية المتواضع، والإمام الوسطي، والقارئ ببحّة الصوت الحاني.
و في مقامك أذكر نَعْيَ عبد الله بن المبارك(181هـ) في مجلس الفضيل بن عياض حيث قال:” إنّا لله، أمَا إنّه ما خلف بعده مثله”، وأرجو أن يخلفنا الله مثل صفاء قلبك على دروب العلم والعمل،والفكر والدّعوة، والفرد والجماعة.
بل أقول في مِحراب قلبك الصافي وسريرتك النّقية، بمقولة سفيان بن عُيَيْنة عن ابن المبارك:” كان عابدًا، زاهدًا، سخيًا، شُجاعًا”، بل كنت مناصرًا لقضايا الوطن والأمّة، وفي مقدمتها فلسطين المحتلة. لقد تحسست آلام جسدك يوم كرّمتك دار إفتاء راشيا في مسقط رأسك بكا الحبيبة بأهلها، كيف كنت تتحامل على ذاتك المكدودة بكلوم المرض الغائر في جوارحك دون روحك وقلبك وعقلك ولسانك، حيث أحييت فينا مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسير في يد المتوحشين الصهاينة الإرهابيين قتلة الأطفال والنساء والمرضى والآمنين في دور العبادة والعلم والمستشفيات، فكنت أبلغ خطيب بصدق خطابك في أيام عزَّت فيه المواقف الحقة، خوفًا من تهمة الإرهاب والأصولية والتطرف إذا ما ناصرنا إسلامنا في أي بُقعة من الأرض وخاصة في غزة العزة.
ودعني أقول في مجلس غيابك، مات سيد القلوب في صفائه، وذلك على خطى مقولة هارون الرشيد عن سيد القلوب والزهاد ابن المبارك يوم رحلته إلى الله ورجوعه إلى ميعاده الأصلي:”مات سيد العلماء”، وتقول في رجوعك إلى موطنك الأصلي:”مات سيد الأصفياء”.
وأقول لابنه المنذر ابننا ولبناته بناتنا بمقولة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان لمبارك والد عبدالله بعد أن نظر إليه:”أدَّت أمُّه إليك الأمانة، وذلك لأنه كان أشبه الناس بعبدالله”، فيا أعزائي لقد أدّت أمّكم أختي العزيزة أم المنذر – إلى أبيكم الأمانة، فكنتم الأكثر شبهًا في خَلْقِه وخُلُقه، فربّتكم معه يداً بيد على الطّاعة والرّضا، فسيروا على خطاه في وصل الأرحام من جهة أمّكم وخاصّة الحبيب خالكم أخي الشيخ زياد هيفا، ومن جهة أبيكم وخاصة سماحة المفتي الشيخ وفيق حجازي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا تقطع وِدَّ أبيك- وأمّك- فيطفىء الله نورك”.
سيبقى نور تواضعه، وخُلقه، شروق نهارنا وضوء ليلنا في كل مسالك حياتنا الاجتماعية والدّعويّة. وكيف ينقطع ضوء النور وقد غرس في بقاعنا شجر صفائه، وربّى أبناءنا وبناتنا في المدارس الخاصة كالمقاصد والرسمية، بل في مساجد البقاع وبيروت العاصمة.
ولن أنسى حُبّك الذي كنت تعبّر عنه بعيونك، ودفء عناقك، ولسان حالك وقالك وفِعالك في حضوري وغيابي أيّها الحبيب الذي كنت ألقى مُحيّاك يوميًا أكثر من نسمات مسقط رأسك!
ولن أغفل عن مسار القلب المخموم، علاجًا لنفوسنا في طريق الدّعوة لتبقى بنا نقيّة، علّنا نكون من أفضل الناس قلوبًا فننجو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا : صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لاَ إثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ، وَلا غِلَّ، وَلا حَسَدَ».
رحم الله الشيخ علي حجازي، وأبدلنا مثل صفاء قلبه، وصدق لغته، وتواضع مسلكه. ويا ربّنا انصر أهلنا في غزة العزة.وثبّت قلوبنا على دينك وخُلق نبيّك كما ثبّت المجاهدين على أرض فلسطين المُحتلّة.