يواجه لبنان حاليًا تهديدًا خطيرًا قد يضعه في قائمة الدول ذات المخاطر العالية، إذ من الممكن أن تُدرجه مجموعة العمل المالي (FATF) على “اللائحة الرمادية”.
تعمل FATF، وهي منظمة دولية أُسّست في باريس العام 1989، على وضع معايير دولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح، وتقوم بتقييم مدى التزام الدول بتلك المعايير. وإدراج لبنان في اللائحة الرمادية قد يؤدي إلى خفض تصنيفه الائتماني، ما يزيد من تعقيد التعاملات مع المصارف المراسلة ويرفع تكاليفها.
في حديث مع “النشرة”، أوضح الأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة، عبد حفيظ منصور، أن الاقتصاد النقدي في لبنان ازداد بعد الأزمة المالية والمصرفية التي يعاني منها البلد منذ العام 2019. وكان لبنان قبل هذه الأزمة من بين الدول الأقل اعتمادًا على الاقتصاد النقدي، حيث كان يتمتع بأعلى معدلات الشمول المالي. ولكن مع فقدان الثقة بالمصارف، تغيرت الصورة بشكل كبير.
يشير الاقتصاد النقدي إلى الجزء من الاقتصاد الذي تُجرى فيه التعاملات المالية والدفع نقدًا بدلًا من استخدام وسائل الدفع الإلكترونية أو المصرفية. ورغم أن لهذا النموذج بعض المزايا مثل السرية وتجنب الرسوم والعمولات، إلا أنه يحمل العديد من المخاطر، مثل صعوبة تتبع الأموال وزيادة مخاطر غسل الأموال، وتزوير العملة، والتحديات في إجراء العمليات المالية الكبيرة.
وأشار منصور إلى أن التعاملات النقدية كانت شائعة في العديد من الدول حول العالم، حتى في الدول المتقدمة. ففي الولايات المتحدة يمكن إجراء البيوعات العقارية النقدية شرط قبول البائع قبض الثمن نقدًا، وفي أوروبا كان من الممكن شراء السلع الفاخرة نقدًا حتى صدور تعديل تشريعي في يونيو 2024 وضع سقفًا محدّدًا لهذه العمليات.
أما في الدول العربية، فيظل استخدام النقد شائعًا، حيث يشكل الاقتصاد النقدي جزءًا كبيرًا من الاقتصاد في بعض هذه الدول، ما يضع لبنان في وضع غير استثنائي. ومع ذلك، فإن الأزمة العامة في لبنان تسلط الضوء على أن نصف اقتصاد البلاد بات يعتمد على النقد.
قبل الأزمة المصرفية، كان لبنان يتصدر دول المنطقة في الشمول المالي، حيث كانت نسبة الاقتصاد النقدي منخفضة. لكن منذ 2019، ومع تفاقم الأزمة، لجأ الأفراد إلى الاحتفاظ بأموالهم نقدًا، حيث تُقدر قيمة الأموال المحتفظة في المنازل بنحو 5 إلى 6 مليارات دولار، فيما يُقدر حجم الاقتصاد النقدي بما يقرب من 11 إلى 14 مليار دولار، أي ما يقارب نصف حجم الاقتصاد الكلي.
رغم هذه التحديات، ما زال اللبنانيون مضطرين إلى التعامل مع المصارف لإجراء التحويلات المالية الضرورية، لا سيما لدفع تكاليف الاستيراد التي بلغت 17.5 مليار دولار في 2023. كما يحتاج الأفراد للمصارف لتحويل الأموال والدفع بالبطاقات المصرفية عند السفر أو الشراء عبر الإنترنت.
وفي محاولة للحد من تنامي الاقتصاد النقدي، اتخذ مصرف لبنان إجراءات عديدة، من بينها إصدار تعاميم تسمح بفتح حسابات جديدة للأموال الأجنبية “Fresh Funds”، وتعزيز التعاملات المصرفية بالتحويلات والشيكات بالدولار “الفريش”، وهو ما ساهم في زيادة الثقة بهذه الوسائل.
ومن بين الخطوات الأخرى، يعمل مصرف لبنان بالتعاون مع وزارة المالية على اعتماد بطاقات الدفع لتسديد الضرائب والرسوم، وهو ما يُتوقع أن يساعد في تقليص الاعتماد على النقد.
ورغم كل هذه الجهود، يؤكد الخبراء أن الحل الجذري يبقى في إعادة القطاع المصرفي إلى مساره الطبيعي ومعالجة التشريعات اللازمة، خاصة قانون إعادة هيكلة المصارف وقانون “الكابيتال كونترول”.
وفي هذا السياق، أشار منصور إلى عملية تقييم التزام لبنان بالمعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، التي بدأت في 2021. وفي هذه الظروف الصعبة، يحتاج لبنان إلى مقاربة حكومية شاملة لتنفيذ الإجراءات التصحيحية المطلوبة لتعزيز فعالية نظام مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. كما أنّ على لبنان أن يقدم تقارير متابعة بشأن التقدم المحرز خلال 2024 لمجموعة العمل المالي (FATF)، وهو ما سيكون محط متابعة عن كثب في الفترة القادمة.