كتبت نوال نصرفي “نداء الوطن”:
“مشيوا عالسكيت هني، فلو من الدني راحوا، طمني عنن يا موت، إرحم هالآه ل فيي، ناديتم من عالي الصوت وما حدا ردّ عليي…”. جو بجاني، لقمان سليم، تاتيانا واكيم، منير أبو رجيلي، زينة كنجو… أسماء أسماء قُتل أصحابها تحت عين الشمس ومحبوها يُقتلون في اليوم القصير مرات. لكن، ماذا عن القتلة؟ هل من يعرف عنهم شيئاً؟ وماذا عن مصير العدالة التائهة التي يفترض أن يُقطع بها الظلم من جذوره؟
…وانتقلنا من 2020 الى 2021 وننتقل من 2021 الى 2022 ويستمرّ الإفلات من العدالة القاعدة والدستور. فهل علينا أن نقول ونحن نعبر الى 2022 أن “ما من ظالم إلا وسيُبلى بأظلم” أم علينا الخنوع أن لبناننا والعدالة لا يلتقيان؟
على عتبة السنة الجديدة سألنا عن مجريات العدالة مع ثلاثة: جو بجاني الذي قُتل بكاتمٍ للصوت في 21 كانون الأول 2020 في الكحالة. لقمان سليم الذي قُتل في العدوسية في 4 شباط 2021. وتاتيانا واكيم التي قُتلت في مطعم “الشير” في بطحا برصاصة طاشت من يد المجرم فؤاد صياح فانتهت في 19 أيلول 2021 في القبر وهو، قاتلها، حرٌّ.
سلاحنا الكلمة فكيف نتصدى
نقصد دارة لقمان. حيث ضريحه، حيث عبارة “حيث يحيا في الفردوس الأعلى بطل من لبنان” فنشاهد وروداً تنبت على الدوام ونشعر بلفحة هواء باردة. لقمان المثقف والمقاوم “يحيا في الفردوس” لكن ماذا عن قاتله؟ ماذا عن قاتليه؟ الأيام تمرّ سريعة والعدالة جامدة مثل الثلج. فهل نتوقعها في 2022؟ ألم يُغيّر شيئاً تبني ثلاثة مقررين في الأمم المتحدة (فرع حقوق الإنسان)، في نيسان 2021، قضية لقمان؟ صوت رشا الأمير، شقيقة لقمان، ما زال يتهدج حزناً. ما زالت تبكيه ليل نهار. نشعر بها وكأنها أسيرة تلك اللحظة في 4 شباط 2021. لا، لا يذوب الحزن دائماً مثل “الصابونة”. هي قصدت قبل أقل من أسبوع مع والدتها منزل أهل الضحية الأخرى جو بجاني للتعزية بوالده جورج الذي توفي بعد عام ويومين على مقتل وحيده. هو عزاهم يوم قتل لقمان وهم عزوا به البارحة. “فقع ومات”. رشا تخاف كثيراً على والدتها التي تنام وتستيقظ على صورة لقمان وتقول: “كسروا والد جو. كسروا والدة لقمان. إنها إبادة لعائلات بأسرها لا الى أشخاص”.
السلاح أقوى
نعود الى طرح سؤالنا: ما مصير العدالة في قضية مقتل لقمان؟
رشا الهادئة جازمة: “لا أحد، لا أحد أبداً، قادر على تحقيق العدالة في بلاد السلاح يعطل فيها القضاء. ومن في الخارج يقولون للداخل: ساعدوا أنفسكم لنساعدكم. وهذه حال منظمات حقوق الإنسان. فكيف ننشد العدالة والمسدس في رؤوسنا؟ البلد قتلوه ولقمان كان من طلائع قتل البلد. لبنان في موت سريري وهم قرروا إعدام الحق والقضاء. فماذا يمكنني أنا ان افعل؟ كيف أواجه وسلاحي الوحيد هو الكلمة؟ هم، كلهم، يعرفون من قتل لقمان بالأسماء والعناوين لكن لا قانون في ظل عدالة السلاح. الم تروا ماذا يحصل مع قاضي التحقيق طارق بيطار؟”.
آخر نفسٍ، شهيق وزفير، أخذه لقمان كان عصر يوم 4 شباط 2021. وها نحن نقتحم المجهول في 2022. مصائبنا كثيرة لكن، على عتبة السنة الجديدة سنسأل وسنظل نسأل: أين العدالة؟
الإفلات من العقاب
السؤال ذاته طرحناه على الأستاذ في القانون (وزير العدل سابقاً) البروفسور ابراهيم نجار: لماذا لا تصل التحقيقات في لبنان دائماً الى خواتيم؟
يتمهل ابراهيم نجار. يأخذ نفساً عميقاً. يفكر ثم يُعطي مثلاً: “يوم أتيت الى وزارة العدل عام 2008، زارتني صحافية أجنبية وسألتني: ماذا عن نتائج التحقيق في أحداث 7 أيار في بيروت؟ لماذا لم يلاحقها أحد؟ لماذا لم يقدم أحد دعوى فيها ضد أحد؟ لم أعرف بماذا أجيبها. وبعد كم يوم سألني أحدهم: معالي الوزير ماذا حدث في الدعوى في قضية بنك المدينة؟ فاجأني. كتبتُ يومها الى مدعي عام التمييز وطرحتُ عليه نفس السؤال فأجابني خطياً: تشكلت لجنة واللجنة عينت خبيراً. بعد قليل بدأنا بالمحكمة الدولية فارتفع الصراخ وانطلق الكلام عن شهود الزور. بعدها قالوا ان ذلك من مصلحة المجلس لا المحكمة. واليوم، في قضية المرفأ يقولون ان المجلس العدلي ليس صاحب الصلاحية هنا. ويستطرد بالقول: “هناك ثقافة تسود من زمان، منذ أربعين عاماً، مضمونها الإفلات من العقاب في لبنان”.
أين قتلة منير أبو رجيلي؟
إنها ثقافة الإفلات من العدالة في لبنان تسود. والحقّ يسير، بحسب وزير العدل السابق، على قاعدة “هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح”. فلا دولة قانون ولا دولة مؤسسات و”كلو تسييس بتسييس”. وينهي ابراهيم نجار كما بدأ بمثل: “كتب أحد الجنرالات الفرنسيين أطروحة عن لبنان في عشرينات القرن الماضي ذكر فيها خبراً من أيام المتصرفية فقال: لقطوا مرة قطاع طرق فتبين أن كلهم ينتمون الى طائفة الدروز. بعد مرور أيام قبضوا من جديد على قطاع طرق فتبين أنهم جميعاً موارنة. ثم عادوا وقبضوا على قطّاع طرق فتبين أنهم سنّة. وبعد مرور أيام والتوقف عن ملاحقة قطاع الطرق قامت قيامة الشيعة وتساءلوا: ماذا عنا نحن؟ هذا هو لبنان”.
أين قتلة جو بجاني؟
هذا هو لبنان. من سنة الى سنة الى سنة الى 2022؟
بعد ساعات تسقط آخر أوراق روزنامة 2021… الذي توفي في آخرها جورج بجاني بعد سقوط ولده قتيلاً مع سقوط آخر أوراق روزنامة 2020… لاعدالة. لا حق. فقط قهر ووجع وكثير من الإستسلام. فهل علينا أن نقلب الصفحة من دون سؤال: من قتل جو بجاني؟
زوجة جو وابنتاه تالا وآيا، هاجرن. ووالده رحل. سنة قلبت، رأساً على عقب، حياة أفراد آل بجاني. والده طالب بالعدالة في 21 كانون الأول 2021 ومات في 24 كانون الأول 2021. أسلم الروح ورتاح الآن بعد كل السكاكين التي غُرزت في صدره جراء فراق ولده الوحيد. مؤلمٌ جداً ما حصل. وكم حُمّل وهو ينتقل من هذه الدنيا الفانية الى دنيا الحق “سلامات لجو”.
جو بجاني لا لم ننسَ اسمه حتى ولو كان هناك من يريدون أن ننسى “العدالة والحق والقانون” والتلهي بالرغيف والبنزين والكهرباء والدواء. أين العدالة في قضية قتل جو أمام إبنتيه بكاتم الصوت؟
ذات يوم، في آب 2020، إثر تفجيرات مرفأ بيروت، سأل جو أيضاً عن العدالة وطالب بالحقيقة وكتب على صفحته على الفيسبوك: في شباط 2016، حسن نصرالله كشف وجود كمية كبيرة من مادة الأمونيا في حيفا وصاروخ من “حزب الله” كفيل بقتل عشرات آلاف الإسرائيليين. في 2017، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً بنقل المستوعبات من ميناء حيفا الى مكان أكثر أماناً. في أيلول 2018، أعلن نتنياهو عبر الأمم المتحدة أن “حزب الله” يُخزّن أسلحته في مناطق سكنية حيوية. في تشرين الأول 2018، سخر جبران باسيل من معلومات نتنياهو واعتبرها كذبة. لذا، في آب 2020 بدنا الحقيقة”. قتل جو قبل معرفة الحقيقة. وهناك من يراهن أيضاً على الوقت لنسيان حقيقة قتله.
هو ذاته، كتب ذات مرة: خلونا نشوف التحقيقات اللبنانية شو طلع منا: من قتل الرئيس رينيه معوض؟ من قتل اللواء وسام الحسن؟ من قتل اللواء فرنسوا الحاج وبيار أمين الجميل واللائحة تطول… تفوه على شرفكن. هذا ما قاله جو الى كل من يستاهل قبل أن يُصبح رقماً آخر على لائحة موت طويلة طويلة.
أين قاتل تاتيانا واكيم؟في 2021 حوادث قتل كثيرة حدثت بينها تلك الرصاصة الطائشة التي أصابت تاتيانا واكيم. هي فاجعة. والمجرم معروف بالإسم فؤاد صياح. هو يعمل لدى أنطوان الصحناوي والقاضي بسام الحاج إدعى على الأخير سنداً للمادة 60 من أصول المحاكمات الجزائية بجناية مادة 335 من قانون العقوبات وتصل عقوبتها الى أكثر من 10 سنوات اشغال شاقة بجرم تأليف عصابة وترويع الناس. قاتل تاتيانا هو واحد في مجموعة ارتكبت جرائم بالجملة بحق جورج الريف وايلي نعمان وفي ملهى الكريستال وبقطع أذن أستاذ في مدرسة زهرة الإحسان. يا الله. كل تلك الجرائم والأذى والمجرمون “يكزدرون” في المدائن والمظلومون في القبور. لا، لسنا متفاجئين ما دمنا في بلد ثقافته الأبرز: الإفلات من العدالة.
الشرائط البيضاء لا تزال معلقة على سلالم منزل تاتيانا واكيم وصورتها لا تزال على مركبة مكتوب عليها: للبيع. ووالدتها ترتدي السلسال الذي كان في رقبتها يوم قتلت. تتنشقه، تشد به نحو قلبها. تقبله. يا لوجع تلك الأم أيضاً. والد تاتيانا شوقي وشقيقاها إيليو وجورج يرددون بعد ذكر اسمها في كل مرة “تقبري قلبنا”. جورج يتحدث معها كل ليلة. يناديها. يُخبرها: أنا موجوع يا أختي والله أنا تعبان. ليش بخلاني عليي بحلم. طلي عليي ثوان بس وما بقا تقهريني. تقبري قلبي يا وجعي يا اختي”. شقيقه إيليو يعدها هو أيضاً للمرة الألف “وعد علينا يا عروستنا الحلوة يلي زفيناها بصندوق خشب، يا أميرة قلوبنا، طول ما فينا نفس قضيتك وإسمك رح يضلوا بالعالي”.
وجع هائل يجتاح الكثيرين في بلد متفلت من العدل و”ساقط” بين براثن الظالمين. من 2021، من قبل 2021 بكثير، الى 2022… أسر بكت، ولا تزال، دماً. وأسئلة تتكرر كما القرع على الطبول: من قتل فلان؟ ومن قتل علتان؟ صوتُ بلا فعالية.