بمناسبة عيد مار مارون ، ترأس سيادة المطران جوزف معوض السامي الاحترام راعي ابرشية زحلة المارونية قداساً إحتفالياً في كاتدرائية مار مارون كساره، بحضور اصحاب السيادة مجلس أساقفة زحلة والبقاع وكهنة ورهبانا وراهبات، وحضره حشد من النواب والوزراء الحاليين والسابقين تقدّمهم دولة الرئيس ايلي الفرزلي ومحافظ البقاع القاضي كمال ابو جوده وقضاة وقادة عسكريون وأمنيون ورؤساء بلديات ومخاتير وموظفي إدارات الدولة في البقاع، وإعلاميون إضافة الى حشد من المؤمنين.
والقى سيادته عظة جاء فيها:
شبّه السيد المسيح موته على الصليب المعطي الحياة، بحبّة الحنطة التي تموت لتعطي ثمراً. ومار مارون، على مثاله، مات عن هذا العالم بحياة النسك والزهد، فأصبح في حياته وبعد مماته شفيعاً لكثيرين. والموارنة الذين تكنّوا باسمه كشفيع لهم، نشأت نواتهم حول دير مار مارون المبني على ضفاف العاصي سنة 452، وشكّلوا في سوريا ولبنان، جماعة وحّدها الايمان الخلقيدوني والثقافة السريانية. وانتظموا في هيكليّة بطريركية في أواخر القرن السابع وأوائل الثامن، بعد نزوح كبير من سوريا الى لبنان إبان الفتح العربي، وأكملوا مسيرتهم التي لم تخلُ من الصعوبات وأوقات الشّدة.
فالّذين نزحوا من سوريا، تركوا سهولها الخصبة، وسكنوا جبال لبنان ووديانه، بأرضها الوعرة، فكسّروا الصخور، واستصلحوا الأرض، وحوّلوها الى أرض مزروعة، وعاشوا حياة بسيطة، قشفة، جاهدة، يبحثون عن خبزهم كفاف يومهم، متّكلين على بركات الله يحصلون عليها من ثمار أرضهم. ارتضوا بهذه الحياة صوناً للكرامة والحريّة.
وواجهوا في مختلف العصور، الاضطهادات والظلم وضيق العيش، وزيادة الضرائب، والتهجير. وكانوا يستنجدون ببطاركتهم الذين كانوا يضطرون أحياناً، بسبب الجور الّذي كان يطالهم، الى ترك مقرّهم الأساسي والتنقّل ظرفياً في مختلف الأماكن في لبنان. و لنا شهادة عن هذا الضيق في الرسالة التي وجّهها البطريرك اسطفان الدويهي (بطريرك بين سنتي 1670-1704) الى البابا اينوشنسيوس الحادي عشر، وهي مؤرخة في 8 أيلول 1679، هنّئه فيها على انتخابه على السدّة البطرسية، ونقل اليه معاناة أبناء كنيسته، فقال ما حرفيته: “فان ضياعاً كثيرة خلت وبعض ديورة احترقت والكنائس انهجرت، وتقتل شعب كثير والباقي تفرقوا بين الأمم الغريبة من تغيير الحكام وقساوتهم. ثم دخلت هذه السنة بالجراد والزحاف حتى غطوا وجه الفلك والأرض. ثم تبعهم القحط والغلا حتى زادت الأسعار خمسة أضعاف كما كانت أولاً”. (راجع بطرس شبلي (مطران بيروت)، اسطفانوس بطرس الدويهي، بطريرك انطاكية، 1630-1704، الحكمة، 1970، ص 103)
ومن المحطات القاسية جداً، الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي واجهوا فيها مع شركائهم في الوطن، الجوع والعوز، بسبب مصادرة القمح واحتكاره، وبسب الحصار البَرّي، وتدني سعر الصرف، وفقدان العملة الورقية العثمانية لأكثر من 90% من قيمتها، والغلاء الفاحش، وتأجيل المصارف لدفع أموال المودعين، ومتاجرة السوق السوداء بالنقد. (راجع الخوري اسطفان ابراهيم الخوري مجاعة، أهالي جبل لبنان، خلال الحرب الكونية الأولى (1914-1918)، منشورات المركز المارونية للتوثيق والأبحاث 2016،ص 65 و108-114)
وما خفّف من هذه المحنة، المبادرات التي قامت بها مختلف الكنائس بشخص مؤمنيها واكليروسها، ولاسيما البطريرك الحويك الذي نظّم المساعدات في الأبرشيات ودعا الى التوبة والصوم والصلاة وتلاوة الوردية، والمبادرات التي قام بها مسلمون، ودول أجنبية ومهاجرون كانوا يحاولون بقدر ما توفر لهم أن يرسلوا الأموال الى من يحتاج اليها.
هذه مأساة عاشها الموارنة مع آخرين، ولكن التاريخ لا يقتصر عليها، بل يحتوي على أوقات مشعّة ومفرحة، قدّم فيها الموارنة اسهاماتهم، على الصعيد الروحي والثقافي والتجاري والوطني. واذا ذُكرت هذه الأوقات العصيبة، فمن أجل أن نعتبر من تاريخنا كيفية تخطيها. تخطّيناها عبر اللجوء الى الله، وطلب خلاصه، والتشفع بالعذراء مريم، حمايتنا في الملمّات. وتخطّيناها عبر المحافظة على وحدتنا والتضامن فيما بيننا. وأظهر التاريخ أن الموارنة بقدر ما يتضامنون فيما بينهم، ويوحّدون رؤيتهم، بقدر ما يكونون خيراً لأنفسهم وللبنان. وتخطّيناها بالتعاون مع اخوة في الداخل والخارج. وتخطّيناها بارادة الصمود، والرجاء بغد دائما أفضل. وكما ان حبة الحنطة اذا ماتت أعطت ثماراً كثيرة، كذلك بعد كل هذه المآسي، وُلد لبنان الكبير وشهد عهداً جديداً بجميع مكوّناته.
نحن اليوم نعاني من أوقات صعبة على الصعيد السياسي والاقتصادي والمعيشي. فمؤسسات الدولة الدستورية مهدّدة بالتعطيل اذا فُقدت الميثاقية، والشعب يعاني من العوز والجوع والبرد وغياب الدواء والغلاء، والأجور غير الكافية، وانخفاضِ قيمة الليرة اللبنانية والقدرة الشرائية، وحجبِ الأموال في المصارف أو تقطيرها، وخطرِ الليلرة حديثِ الساعة، وخسران الوظائف، والبحث عن الهجرة. والكل يعرف أننا وصلنا الى هذه الحالة بسبب الفساد المستور من عشرات السنين، والبحث عن المصالح الخاصة والفئوية، وغياب الخطط الاقتصادية التي كان عليها تجنيبُ الوطن مثل هذه الأزمة. والشعب يدفع الثمن. تخطّت الأزمة السنتين ولم نلقَ حتى الآن التدابير الانقاذية المطلوبة. الحلول متوفّرة، والأخصّائيون في الاقتصاد لا ينَوَن عن تقديمها. ولكن اقرارها مرتبط بتوافق الأفرقاء السياسيين، أصحاب النفوذ والقرار. هل هؤلاء يشعرون بمعاناة الشعب؟ اننا ننتظر منهم تغليب المصلحة العامة، ووضع الذات بحالة طوارىء لاجراء الانقاذ والاصلاحات اللازمة. والموازنة التي يُعمَل عليها الآن، والتي تطرح تساؤلات، ألا يجب أن تشكّل حلقة في خطة انقاذ اقتصاديّة متكاملة تقود الى النمو الاقتصادي؟ وننتظر متى استُكملت هذه الخطّة، أن يُعلن عنها بالقدر الكافي. والكل يعلم بأن خطّة الانقاذ، لا يمكن تنفيذها بدون سير منتظم لمؤسسات الدولة الدستورية، أي بدون تعطيل، وبدون مسؤولين متجرّدين، همّهم مصلحة الشعب الّذي لا يستطيع تحمّل أي ضرائب جديدة. لا يمكن أن يكون الاصلاح على حساب الشعب، ولا على حساب المودعين في المصارف، فهذا ابتزاز وظلم. وفي هذا السياق، نرفع الصوت لمطالبة المراجع المختصّة في الدولة لوقف الاحتكار، والتهريب، والتقلّبات النقدية، لأسباب أحياناً اما مجهولة، واما لا نجد لها تبريرات اقتصادية ومالية.
ونخشى أن يتمّ استخدام الواقع الاقتصادي والمعيشي، كعامل ضغط لمآرب سياسية. فلا بدّ من القول هنا ان السعي لحلّ الأزمة يتطلّب المحبة المتجرّدة للبنان ولشعبه، ويمرّ بما طرحه غبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي عن الحياد الايجابي، وطرحه يجسّد روحية الميثاق الوطني سنة 1943، وهو التحرّر من التبعية الخارجية من أجل أن يكون الولاء للبنان فقط.
وفي هذه الأزمة، ان للشعب دوراً محورياً في الانتخابات النيابية. فعلى الشعب أن يُثبت مرة أخرى دوره كمصدر للسلطات كما جاء في مقدمة الدستور (د)، وأن يشارك بكثرة في الانتخابات، وأن يكون متحرّراً من التبعية، ويختار من يرى فيهم الكفاءة والنزاهة، والاستعداد لخدمة المصلحة العامة، وان يحاسب من لم يكونوا كذلك. فالوطن يكون ما يريده الشعب.
وفي هذه الأوضاع الصعبة، نشكر الله على المبادرات التضامنية من الكنيسة، وكاريتاس، ومن هيئات ومؤسّسات وأفراد في لبنان وخارجه، ومن أبرشيات في بلاد الانتشار، التي تخفّف ولو بجزء من ثقل الحاجة.
نسأل الله، بشفاعة أمنا مريم العذراء ومار مارون، أن يخلصنا جميعاً، مسيحيين ومسلمين، من وضعنا الصعب، ويسكب فينا روح التضامن ومحبة الخير العام، ويقودنا الى العيش الهانىء. آمين