يحلو لقوى 8 آذار ان تدّعي ان قرار الرئيس سعد الحريري بالعزوف عن الترشح الى الانتخابات وخوضها مع مناصريه، مردّه الى إرادة عليا سعودية، تبلّغها من طريق اماراتية، وانه استجاب للطلب بعد كل العصيّ التي تلقّاها من جراء إقدامه على مواجهات سابقة باءت كلها بالفشل بسبب عدم تكافؤ موازين القوى.
لا يمكن لأي كان ان يتبنى حملة الترويج تلك، ولا يمكن لأحد ان ينكرها بشكل حازم، لان الرئيس الحريري نفسه، لم يكشف سره، كما انه ليس في الامكان الاطلاع على السرّ السعودي، إنْ وُجد، في هذا المجال.
لكن الاكيد ان تجربة الحريري، كما كل القيادات والاحزاب، باءت بالفشل، بدليل ما وصل اليه البلد، وكان من الضروري بالنسبة اليه التراجع خطوة الى الوراء لقراءة المتغيرات والتطورات، كما النكسات والاخفاقات، بهدوء تام، ومن مسافة بعيدة قريبة في الوقت عينه.
أدرك الحريري ان العالم يشهد تحولات كبيرة، او انه عرف ان العالم مقبل عليها، وبالتالي فان المرحلة ستشهد عملية شد حبال، يقع كثيرون ضحيتها، أو وفق المثل اللبناني “بيروحو فرق عملة”، أو “بيروحو فراطة” وفق قول آخر. ولا تفسَّر العبارتان إلا من باب الوقوع في خسارة كبيرة قد تذهب حد القتل والاغتيال، كما حصل مع كثيرين، ومنهم والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي سقط في لحظة اقليمية حرجة، وشكلت النذر لمرحلة لاحقة من حروب الآخرين.
وأدرك الحريري أيضا ان الاكثرية النيابية لا تفرق في شيء عن الاقلية. فالاتفاقات الاساسية والاستحقاقات الكبيرة لا يقررها الداخل، بل تكون ثمرة حسن علاقة أو توتر اقليميين وايضا دوليين، خصوصا انتخابات رئاسة الجمهورية التي غالبا ما تتعطل ويتأخر الاستحقاق الى حين توافر توافقات ولحظات اقليمية حرجة يمرَّر خلالها الاستحقاق أو يُتفق عليه.
كذلك يدرك الحريري انه وفريقه السياسي حصلا على الاكثرية النيابية في انتخابات 2005 وايضا في 2009، وان تلك الاكثرية لم تسعفه في شيء. فبعد اكثرية الـ 2005، جاء افتعال حرب العام 2006، ثم غزوة بيروت في العام 2008، وما بينهما اعتصام لقوى 8 آذار ومحاصرة السرايا من كانون الاول 2006 الى اكثر من سنة. وبعد اكثرية 2009، تم اسقاط حكومة الرئيس الحريري فيما كان يهمّ بولوج البيت الابيض الذي دخله رئيساً لحكومة لبنان، وخرج الى تصريف اعمال حكومة مستقيلة.
وقد وعى الحريري ان ما يجري هو استنزاف للطاقات وتبذير للاموال في وقت التشابك الاقليمي، وفي ظل غياب الرؤية السعودية الواضحة للعلاقة مع لبنان اولاً، وفي النظرة الى مجمل ملفات العالم العربي، وقت تمر المملكة ايضا بمرحلة انتقالية تحاول من خلالها اجراء تغييرات جذرية في داخلها.
والاهم من كل ذلك، استشعر الحريري خطر السلاح، وهو العنصر الاقوى في أي معادلة أو منازلة، والغلبة لمن يملكه، والذي لم تنجح كل المحاولات لتنظيمه ضمن استراتيجية دفاعية.
امام هذه الوقائع، فضّل الانسحاب على التحول اقلية داخل المجلس، وشاهد زور على ما يمكن ان يحصل، بل ان البعض يعتبر ان الخطوة التي أقدم عليها هي الاذكى، اذ يترك الساحة لـ”حزب الله” في مرحلة ترسيم الحدود مع اسرائيل، وبالتالي التطبيع غير المباشر معها، كما انه يفسح في المجال لحكومة مختلفة تواجه المطبات المتكاثرة، وخصوصا رفع الدعم، وتجويع الناس، والنجاح في التفاوض مع صندوق النقد الدولي، أو الفشل الذي يفجّر البلد عن بِكرة أبيه.
لقد ترك الساحة لمن يزايد عليه باستمرار، وها هو ينتظر على ضفة النهر…